نحن في زمن تاريخي يقترب من مرحلة تتشابه كثيراً مع بدايات القرن العشرين الماضي وخاصة فيما قبل الحرب العالمية الأولى، وهذا ما يجعل من الصعب تحديد إلى أي مدى يتجه العالم في ظل استقطابات متعددة لقوى دولية تزحف نحو المنطقة لتزاحم بعضها الأخرى على الجيوبولتيك.. المشاعر السياسية في المنطقة اليوم مختلفة جداً عما قبل الثالث من نوفمبر، وقد تبدو هذه المشاعر أيضاً مرتبكة بعض الشيء، فالمسار السياسي للإدارة الأميركية بشكل خاص خلال السنوات الأربع الماضية يترك فراغاً هائلاً بعد تحولات الانتخابات الأميركية التي تأتي برئيس تتمحور رغبته الأولى في العودة بالاتجاه المعاكس تماماً للسنوات الأربع الماضية. الفكرة التي أجادل من أجلها هنا هي وجود فرضية تقول: إن أميركا مع رئيسها المنتخب ستعود في الاتجاه المعاكس للطريق الذي قطعته إدارة ترمب خلال سنواتها الأربع بهدف إصلاح تلك المحطات على طريق الرئاسة من العام 2020م رجوعاً إلى العام 2016م، وهذا يعني الشيء الكثير لمنطقة بحجم الشرق الأوسط تتزاحم عليها القوى العالمية، لينتهي بنا الأمر إلى طرح سؤال مهم حول كيفية المشي فوق تحديات تلوح في أفق الشرق الأوسط. الرئيس المنتخب بايدن صرح أن أميركا يجب أن تعود وتصحح المسار الذي انتهجه الرئيس ترمب وهذه دلالة مؤكدة على أن مرحلة ترمب بالنسبة للتاريخ الأميركي تعتبر مرحلة استثنائية فلا أحد يختلف أن المنهج الذي أدار به الرئيس ترمب أميركا خلال الأربع سنوات الماضية كان منهجاً مفاجئاً ومختلفاً وتميز بالكثير من الأساليب السياسية الغريبة وغير المعتادة من السياسية الأميركية. بايدن يرغب وبشكل واضح العودة بالاتجاه المعاكس للسياسة الأميركية وليس البناء عليها والسير قدماً، وهنا تكمن التحديات وتتناثر الأسئلة المهمة حول طبيعة السياسة الأميركية وهي تستهلك وقتها في العودة لإصلاح تلك الأنقاض السياسية التي يعتبرها بايدن خطأ فادحاً تم ارتكابه بحق السياسة الأميركية. الشرق الأوسط هو أحد تلك المواقع المهمة على طريق الرئاسة الأميركية الجديدة، وكما يبدو من التصريحات المباشرة لبايدن أن سياساته الخاصة بمنطقة الشرق الأوسط سوف تحظى بالكثير من التعديل الذي طرأ عليها أثناء إدارة الرئيس ترمب، وسوف تشهد المنطقة حجم الاختلاف المطلق بين سياسات ترمب وسياسات بايدن، وهذا لا يلغي بعض التماثل بين الرجلين في بعض الملفات وخاصة في ملف الوجود العسكري في الشرق الأوسط، فكلاهما يؤمن بأهمية تخفيض الوجود العسكري الأميركي في المنطقة، ولكن هذا الأمر مرتبط بالتطورات التي تشهدها منطقة ساخنة بشكل كبير شهدت استقطاباً حاداً وحروباً دائرة في أكثر من بلد عربي. منطقة الشرق الأوسط مقسومة إلى ثلاثة أقسام رئيسة هي: دول الخليج، تركياوإيران، مصر وبقية الدول العربية، ومع أن هذا التقسيم يصبح مقبولاً إلا أن هذه الأقسام الثلاثة تؤثر في بعضها بشكل مباشر، فمثلاً لا يمكن الحديث عن الخليج العربي دون التطرق إلى إيران التي سوف تحاول أن تعيد استقطابها الحاد في الخليج من خلال الأمل بأن تكون إدارة بايدن تفكر بالأسلوب ذاته الذي فكرت به إدارة أوباما السابقة، وهذه الاتجاهات لابد وأن تعكس الكيفية التي يمكن من خلالها المشي فوق هذه التحديات وخاصة لدول المنطقة الخليجية التي شهدت هي أيضاً تحولات مهمة في عهد الرئيس ترمب، ولعل أهمها مسار التطبيع الذي نجحت إدارة ترمب في تحقيقه بين إسرائيل وبعض الدول في المنطقة. المنطقة التي اعتادت أن تكون ملفاتها ساخنة وأزماتها معقدة لابد وأن تتنبه إلى تلك التغيرات الحادة على المستوى الدولي أيضاً، فحتى أميركا نفسها تتعرض للكثير من الانخفاض في وزنها الدولي وخاصة في مقابل أوروبا والصين وروسيا، حيث تطمح هذه الدول بالكثير من الفرص الناتجة عن انحسار الدور الأميركي ولو بشكل تدريجي في المنطقة. دول الخليج بشكل خاص لديها الكثير من المسارات المعقدة التي تتطلب منها سياسات يجب أن تتسم بالهدوء فالكثير من الطموحات السياسية التي تنتظرها المنطقة من دول العالم ليست كلها صحيحة أو قادرة على تحقيق منجزات سياسية في المنطقة، لذلك لابد وأن يكون الاختيار دقيقاً. نحن في زمن تاريخي يقترب من مرحلة تتشابه كثيراً مع بدايات القرن العشرين الماضي وخاصة فيما قبل الحرب العالمية الأولى، وهذا ما يجعل من الصعب تحديد إلى أي مدى يتجه العالم في ظل استقطابات متعددة لقوى دولية تزحف نحو المنطقة لتزاحم بعضها الأخرى على الجيوبولتيك من خلال استراتيجيات لا أحد يدرك الكيفية التي سوف تنتج من ذلك التزاحم المهول الذي ينتظر المنطقة، بمعنى دقيق كل القوى الدولية القادرة للوصول إلى منطقة الشرق الأوسط سوف تقدم مقاديرها السياسية بشكل مختلف، وعلينا في هذه المنطقة ولكي نتمكن من المشي فوق تحولاتها أن ندرك نوعية الاستراتيجيات التي سوف تخدم مصالحنا التاريخية قبل أي شيء.