يتقدم في العمر، يتعرّف على أصدقاء جدد، يتنقل من وظيفة إلى أخرى، يقتحم عوالم مختلفة، تفتح أمامه فرصٌ لا تعوض؛ لكنه للأسف يبقى أسيراً لماضيه، كما لو كان سجيناً دون قضبان! إحدى أهم المعضلات التي تواجهنا نفسياً أننا لا نستطيع الخروج من قفص التجارب السابقة، وما حدث خلال سنوات عمرنا الماضية، والأسوأ من ذلك الارتباط عاطفياً بها وقياس كل شيء بها أيضاً! خاصة حينما تكون تجربة ذات مدة طويلة، مثل لو عملت في مؤسسة ما سنوات طويلة أو رافقت صديقاً مقرباً لعقود متتالية، رغم أن تلك وغيرها مرحلة من العمر انتهت، ويجب أن تكون انتهت بقضّها وقضيضها، حتى تستطيع تحقيق الاستفادة القصوى مما تعيشه حالياً. ليس من المعقول أن تفكر بكل ما مضى وتتجاهل ما أمامك! نعم من المقبول -بل من الواجب- الاستفادة من تجارب الماضي وعدم تكرار أخطائه، لكن من الخطأ الجسيم في حقك أن تحاول ربط اليوم بالماضي، بل وتقييد المستقبل بذلك الماضي الذي ذهب ولن يعود مهما فكرت وطال حنينك له! التوق للماضي أو ما يعرف ب"النوستالجيا Nostalgia" حالة طبيعية تصيبنا بشكل متفاوت، نظراً لأننا نحمل عواطف تجاه كل ما مضى ولا يمكن الوصول إليه، ناهيك عن أننا نميل لتشكيل صورة انتقائية إيجابية عن الماضي، فلا نتذكر سوى اللحظات الوردية والباسمة منه، ونتجاهل المتاعب والمصائب التي قد تكون أصعب ما واجهناه في حياتنا! خاصة مع اختلاف ظروف المراحل وضغوطها، فلا يمكن مقارنة مرحلة الطفولة بمرحلة المسؤولية عن الأسرة، أو العزوبية بالزواج، أو مرحلة المرؤوس بمرحلة الرئيس، لكننا نميل لذلكم الشعور بأمان الماضي كردة فعل نفسية هرباً من المشاعر السلبية التي تصيبنا بسبب ضغوط الحاضر وهفواته، وهي رغم ذلك حالة دفاعية تساهم في رفع المزاج وتحسين الحالة النفسية شريطة أن تكون ممارسة عابرة لا تؤثر على تقدم الحاضر. من المهم الاستفادة من تجارب الماضي واستغلال رصيد الخبرة المتراكم، لكن ليس بتقديس كل ما نتذكره انتقائياً من الماضي، وأن نجعل حاضرنا مجرد رجع صدى لما خبرناه سابقاً، فالظروف والإمكانات ورصيد الخبرات يقودنا نحو تعامل مختلف، والأهم نحو تحقيق السعادة والرضا الداخلي بتقدمنا عما كنا عليه في الماضي، وليس بالبقاء مرتبطين بذكريات لن تعود. إحدى أهم صفات الناجحين وبالغي السعادة هي قدرتهم على "تجاوز المرحلة" والانتقال إلى تحديات ما بعدها، بالاعتماد على تحقيق الرضا من نتاج جهدهم وواقع يومهم، والنظر بإيجابية لماضيهم الذي قادهم لنجاحات الحاضر، والأهم التطّلع بأملٍ نحو مستقبل سوف يكون مختلفاً عن يومهم، لأنه حتماً سوف يكبرون وسوف تتغير ظروفهم ويتبدل محيطهم.. فهل تفعل مثلهم وتتجاوز المرحلة؟ أم تبقى سجين ذكريات "زمن الطيبين"!