إن الصفة الدينية في الفقه الإسلامي تجعل المسلم - وهو يلتزم بأحكام الفقه في المعاملات والحقوق وموجبات القضاء - في محراب العبودية، وهذا الذي يربط الفقه الإسلامي بقانون الأخلاق، ومن وراء ذلك العبادة بمعناها العام.. ما هذه الصفة؟ وهل هي عيبٌ أو منقبة؟ الصفة الدينية في الفقه الإسلامي تعني أن على المسلم أن يلتزم بما أوجبه على نفسه من عقود وحقوق ولو كان بعيدًا عن الطرف الآخر الذي تعاقد معه والتزم له، وأن يكون ملتزمًا بهذه العقود والحقوق ولو كان بعيدًا - أيضًا - عن متناول القضاء ديانة لله، الذي يؤمن بأنه - سبحانه - سيحاسبه إن قصَّر تجاه التزاماته. وتعني الصفة الدينية - أيضًا - في الفقه الإسلامي أن أحد الطرفين إذا فقد بيناته على حقه فحَكَم القضاء للطرف الآخر فإن هذا الحكم لا يجعل الحق باطلاً، ولا الباطل حقًا في حقيقة الأمر، وهذا الذي أخذ ما حُكم له به يأخذه بمقتضى الظاهر، ومن ثَمَّ كانت أحكام القضاء في الفقه الإسلامي ذات اعتبارين: اعتبار قضائي وهو الذي يحكم به القاضي بحسب البينات ويجب تنفيذه من المحكوم عليه، واعتبار دياني وهو الحق في نفس الأمر والذي قد لا يعلمه بعد الله تعالى إلا المدعي والمدعى عليه فقط. وهذه الصفة الدينية تمسُّ الوجدان، وتوقظ الضمير، وتدفع إلى أداء الحقوق والتزام الشروط، ولا تعني - بحال - أن أحكام الفقه الإسلامي غير مبنية على أصول مدنية ترعى المصالح الدنيوية والأعراف السليمة، أو أنها لا تقبل التطور المطلوب بحسب الأوضاع الزمنية والاقتصادية، فقد تضمنت نصوصه الشرعية من القرآن والسنة قواعد ومبادئ حقوقية ذات قيم عالية؛ كمبدأ الرضائية وحسن النية في العقود، ومبدأ المسؤولية عن الضرر وتعويضه، إلى غير ذلك مما تبنته الشرائع الوضعية الحديثة، وذكره من كتب في هذا الموضوع باستفاضة. وهذه الصفة الدينية لم تمنع أن يؤسِّس الفقه الإسلامي نظامًا قضائيًا مدنيًا يبني أحكامه على الظاهر المحض كما بنت ذلك سائر النظم الوضعية، ومع هذا فإن الصفة الدينية سدّت فراغًا بدونها يبقى النظام القضائي ناقصًا، ويتجلى ذلك في تحليف المدعى عليه عند عجز المدعي عن إثبات دعواه استنادًا إلى القاعدة الشرعية: "البينة على المدعي واليمين على من أنكر". واليمين في نطاقها العام وسيلة من وسائل الإثبات تؤكد ثبوت الحق، أو تنفيه بإشهاد الله تعالى أمام القاضي، وهي تكون في جانب من يشهد له الظاهر، ولذلك كانت - ابتداءً - في جانب المدعى عليه لأنه متمسك بالبراءة الأصلية، لكن إذا وجدت البينة فلا اعتبار لها لأنه: "لا تحليف مع البرهان" كما يقول ذلك الفقهاء. ولما كانت بعض المنازعات قد لا يوجد فيها وسائل الإثبات المادية اضطر التشريع القانوني الوضعي إلى الالتجاء للضمانة الدينية والوجدان الروحي عبر إحلاف المدعى عليه. وبذلك يتضح أن الفقه الإسلامي هو نظام روحي ومدني معًا، وأن هذه الصفة الدينية مزية لا عيب، جلَّلته الهيبة والاحترام، وأورثت أحكامه الانقياد والتسليم؛ إن لم يكن بحكم القانون والسلطان، فبحكم الإيمان والضمير عند عوز البينات وغيبة الرقيب. يقول الأستاذ محمد أبو زهرة: إن ربط القانون الإسلامي بالدين مرتبط كل الارتباط بقانون الأخلاق، فلا تنأى فروع هذا القانون ولا قواعده عن الأخلاق الكريمة. فكانت الشريعة الإسلامية بحق هي أول قانون تلتقي فيه الشريعة بالأخلاق، ويكونان صنوين متَّحدين متلاقيين. ومن قبلها كان ذلك حلمًا للفلاسفة والمصلحين يحلمون به، فإن حاولوا تطبيقه أيقظتهم الحقيقة، وأيأسهم الواقع المستقر. إن الصفة الدينية في الفقه الإسلامي تجعل المسلم - وهو يلتزم بأحكام الفقه في المعاملات والحقوق وموجبات القضاء - في محراب العبودية، وهذا الذي يربط الفقه الإسلامي بقانون الأخلاق، ومن وراء ذلك العبادة بمعناها العام.