أدّى انتشار الإسلام في اصقاع الارض وتواتر الأحاديث عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم واصحابه، وكان بعضها قوياً وبعضها ضعيفاً، الى نشوء المذاهب الإسلامية. واختلف العلماء في مسائل فقهية كثيرة وكان خلافهم رحمة كما جاء في حديث الرسول "اختلاف الأئمة رحمة". والى جانب الشريعة الاسلامية كان لدى الحضارات قوانينها الخاصة التي بقي بعضها الى ايامنا، وعمل بها بعض الدول وجعلها قوانين وضعية. وانكب بعض الباحثين على اظهار أوجه الخلاف في فقه الأئمة وسمي عملهم فقهاً مقارناً، ومنهم الدكتور عبدالفتاح كبّارة في كتابه "الفقه المقارن" الصادر حديثاً عن دار النفائس في بيروت. عمل الباحث على اظهار المعالم العامة للشريعة الإسلامية معتنياً بتحديد مفاهيمها وما يرتبط بمصطلحاتها من الاحكام الفقهية التي تقابلها القاعدة القانونية عند رجال القانون. ويرى كبّارة "ان القاعدة الشرعية الفقهية مرتبطة بأوامر الله تعالى ونواهيه والتزام هذا السلوك بالمنهج الالهي الذي يحقق المصلحة الحقيقية للناس وضمان سعادتهم في العاجل والآجل وتضمنت الالتزام باقترانها بالجزاء عند مخالفة الناس لأحكامها .. اما القانون الوضعي فإنه على رغم ما أخذ به من صفتي العموم والتجريد للقاعدة القانونية فهو يقرر العدل النسبي لا العدالة". ويعرض المؤلف لاقسام الشريعة الاسلامية التي شرعها الله للانسان سواء وردت في القرآن الكريم او في السنّة المطهرة. فالقسم الاول هو قواعد العقيدة الاسلامية وتشمل الايمان بالله واسمائه وصفاته الكاملة والغيب وكتبه ورسله. والثاني هو قواعد الاخلاق. والثالث هو قواعد السلوك العملية وتشمل العبادات والمعاملات. ويرى الباحث ان هذا القسم "يسمى الفقه وهو يقارب الى حد ما القانون الوضعي في تناوله للقضايا العملية". ويضيف: "الشريعة الاسلامية في حقيقتها ومضمونها خطاب الهي للانسان اياً كان زمانه ومكانه ولا يمكن ان يدانيها او يقاربها اي قانون وضعي بشري لا من حيث المصدر ولا من حيث المعالجة في استباق المستجدات والحكم عليها". فالشريعة تهدف في قواعدها العامة الى تحقيق غرضين يتعلق اولهما بصلة الانسان بخالقه والثاني بصلة الانسان بغيره فرداً ام جماعة، ومخالفتها ثم الافلات من عقابها الدنيوي لا يستدعي الافلات من العقاب الاخروي. ويقارن الباحث بين السلوك والمعاملات التي يقصد بها تنظيم العلاقات بين الافراد وروابط القانون العام والخاص في الاصطلاح القانوني. فالاحكام المتعلقة بالاسرة من زواج وطلاق ونسب ونفقة وميراث ُتسمى في القانون الاحوال الشخصية، والاحكام التي تتعلق بمعاملات الافراد ومبادلاتهم من بيع وايجار ورهن وكفالة وغيرها تُسمى حديثاً القانون المدني وينظمها القانون التجاري، وقد جاء بخصوصها في القرآن الكريم سبعون آية تقريباً. واحكام الافعال الاجرامية المُنهى عنها والتي تدخل في القانون الجنائي او العقوبات جاء فيها ثلاثون آية تشمل الحدود والقصاص والتعزير. وفي احكام القضاء والدعاوى والشهادة والقرائن جاء عشرون آية، وغيرها من الاحكام في نطاقات مختلفة. ويرى الباحث "ان هذه الاقسام تشمل مختلف الاحكام التي يحتاجها الناس في حياتهم اضافة الى العبادات التي لا تعنى بها القوانين الوضعية البشرية ولا يوجد لها مقابل في القانون". وفي فصل آخر يظهر المؤلف معالم القانون الوضعي الذي لا يعنى بالصلة بين الخالق والمخلوق ولا بأمور الآخرة بل بالظاهر الخارجي للسلوك، ويهدف الى حماية المصلحة العامة للمجتمع. وتقسم القاعدة القانونية الى قسمين: قواعد آمرة وهي التي تجبر الافراد على احترامها ولا يجوز لهم ان يتفقوا على ما يخالفها لان اتفاقهم يعتبر باطلاً. وقواعد مكملة او مفسرة، هي التي يجوز للافراد ان يخالفوا حكمها ويكون اتفاقهم صحيحاً. والقانون في طبيعته قسمان: خاص وعام، ولكل منهما فروع. ويرى المؤلف "ان القواعد الخلقية تتفق مع القواعد القانونية في كونها قواعد عامة مجردة تتضمن خطاباً لكل فرد في المجتمع وانها ملزمة يتعرض من يخالفها لجزاء معين" معتبراً ان عناية رجال القانون بالكلام على الاديان لا تتناول ديناً معيناً بل مجموعة الاديان السائدة سواء منها السماوية او الارضية ولا يميزون بينها من حيث اهتماماتها التي قد تكون فردية تعنى بالانسان تجاه خالقه وازاء نفسه، وقد تكون جماعية فردية تعنى بتنظيم العلاقات الاجتماعية والاخلاقية. ويعمل الباحث على الفقه المقارن عارضاً لأسباب الخلاف الفقهي ونشأته معتبراً "ان الخلاف لم يكن ناشئاً عن تعصب او هوى في نفوس الفقهاء او رغبة في الشقاق بل كان الواحد منهم يبذل جهده مستهدفاً اصابة الحق وفقاً لغلبة ظنه في الاجتهاد قاصداً بذلك مرضاة الله". وكان الائمة يتلمسون الحكم في كتاب الله وسنّة نبيه ولم تتخط مذاهبهم دائرة الكتاب والسّنة، وكان أهل العلم يقبلون الفتاوى في المسائل الاجتهادية "فيصوبون المصيب ويستغفرون للمخطئ ويحسنون الظن بالجميع ويسلمون بقضاء القضاة على اي مذهب كانوا". والقانون المقارن كما يعتبره الباحث ليس فرعاً من فروع القانون الوضعي ولا قواعد قانونية له تقابل قواعد القانون المدني، وليست قواعده - إن سلمنا بوجودها - مقصوداً بها حل منازعات معينة. وفي المقارنة بين الفقه والقانون يقول "اعلنت المؤتمرات القانونية الدولية ان الشريعة الاسلامية دين وقانون وان المبادئ القانونية التي تحملها تنطوي على ثروة غنية من المفاهيم والنظريات وانه يتعين تبني الدراسة المقارنة معها والتشجيع عليها".