يخيفك بعض الشجن تجاه الغروب.. وحين تغفو ملامحنا على وسائد الأطلال تحاول أن تنجو بمشاعرك من احتباس قهري لكنك تخفق. وهنُ هذا الذهن، وهزيلة تلك الذاكرة لا شيء يساعد على المواجهة، ولا أمر يعينك على الهروب. وهذا النغم في لون المساء يذيب شيئاً من التناهيد.. حتى وإن تطفلت ذكرى جانحة، تسمع حفيف السكون يرحل ببصرك نحو المساء فتتأكد أن النجوم تشيخ في تقاسيم الزمن. وذلك الليل يمد طوله في مدى عيني فيحيا باقي شجني.. يا لهذا الطيف الذي يعبر بخواطري في مساحات الوقت. أصبحت مندفعاً نحو صوتي الذي لم أعتد عليه، وأمسيت متوقفاً على صمتي الذي أدمنته. كنت أظن أن الضوء قد يسجن في زجاجة، والحب يمسح بمنديل، والأصابع تمسك الهواء.. يبدو أن ظني انكسر في حقيقة اللمس، وخاب في غرائب العمس.. كلمات غازية تترنم حولي فتنتشر عاطفتي. مازال هناك غربة، وفتنة دهشة تسير بي إلى قريتي العجوز لأتذكرها وحيداً.. ومازال هناك ماضٍ يخيّم على رأسي، ويكبت قلبي. أسئلة تتدفق في مشاعر سائبة لا تتوقف أبداً.. تعرف كم من الإجابات مختنقة، لن تتنفس مجدداً، فبعض التراب يمحو الآثار وبعض الآثار تمحو التراب. للطين نكهة، وللمطر أهازيج، وللطفولة احتفاء.. وتلك الجدران امتلأت بقصصنا، واغتصت بأسرارنا. إزعاج رطب، وهدوء يابس، وصخب ليّن، وسكون خشن ترانيم رواية براءة وضحكات.. وكسرات خبز اسودت أطرافها عجنت بأيدٍ بيضاء.. حينها كل سخونة تبرد في حينها، وكل برود يحمى قي وقته. تلك الممرات مزقت بعض ثيابي، وصديقتي الشجرة غضبت مني فشقت الباقي. بركة ماء.. وعنب أخضر.. وضجيج ماكينة داخنة.. كان طرباً لا ينتهي.. والشوق لزيارة الغرباء لا ينقطع. وجه الصباح لا يعبس حولنا.. والظهيرة تغشانا بالألفة.. والعصر يحيطنا بالمتعة.. والعشاء يطعمنا الحب. ياه كل ذلك يعود في خيالي، يغزو بصري، يستوطن مسمعي.. ورحى الشوق تلف وجداني.. كم أنا ضعيف حين عبث الواقع بمخيلتي فظننت أنه باقٍ.. كم أنا ساذج حين أسرتني الحياة في حدود الصعوبة فأيقنت أنها البساطة. يؤلم أن يسبح عقلك هناك وجسدك غارق هنا.. ويهيم خيالك في متاهات القرية، وجسمك معتقل.. هل نكتفي بسبغ الذهول على مرافق القلب؟ بالفعل يخيفك بعض الشجن الذي يعيدنا لواقعنا، ويخبرنا أن كل ذاك الزمن تجاوزنا، تعدانا.. بالفعل يضنيك الماضي حين تشعر بنكهة الطين القديم في مذاقنا.. بالفعل ترهقك الخطوات اللاهثة في ذلك البيت وأنت واقف..