اعتاد عمر على البقاء منفردا لا يشعر بالحاجة إلى كائن، غير عائلته الصغيرة.. وما دونهم.. لا يفضله ولا يسعى إليه، متدرع بانطوائيته من وحشية الناس، من تعقيداتهم ووعثائهم وبخلهم وغبائهم وحبهم لأنفسهم.. يحبذ أن يسلك طريقاً لا أنس فيه، ولو كان مملوءا بالجن والوحوش وآكلات اللحوم، إنه يحب ذلك، للوهلة الأولى تظن أنه معقد، ولكن بمجرد التفكير.. أنه أبسط من كل هذه الاضطرابات التي نشعر بها إزاءه. حتى دارت الدنيا بدورانها المتقلب والغريب، وأتى من اقتحم حياته، وغير سنتها وقواعدها الثابتة، فزلزل أرضها، وبدل سماءها.. صديقه الذي قدمه على كل شيء، وقطع ما بينه وبين عالمه وعائلته الصغيرة، وأنكروا تصرفاته، وهو من ظنوه العاقل الراشد، الذي انعزل عن الناس من أجلهم، وانشغل في دنياهم يرعى هذا ويسأل عن هذا، وإذ هو مقلوب رأساً على عقب. أحب عمر هذا الدخيل الجديد لحياته، ورأى فيه كل شيء، وقدم له التضحيات، وأحسن إليه، ورعاه، ووقف معه في أصعب الظروف، إن رقد نهاراً رقد معه، وإن صحا ليلاً صحا معه، وهكذا مضت سنتان ونصف من عمره، قد ذهب فيها رشده، يطارد صديقه أينما ارتحل، إن وقف وقف، وإن جلس جلس، يرى فيه ما يدفعه لشغفه، وما يساعده على عمله، وإن كان صديقه هذا يأخذ من وقته فلا يعطيه، ويقسو عليه ولا يحن، ويهجره إن شاء ولا يسأل، معقد إلى درجة تُحيّر اللبيب، ولا يعتد به عضيد، ويفر منه صاحب العقل الرجيح، وعمر فضل الاختباء خلف ظهر صديقه، ظناً منه أنه يبحث عن راحته، وإذا هو يملك من الاعتلالات النفسية ما الله بها عليم، فإذا مرت سنتان ونيف على علاقته بأحدهم، هجره ولم يعد، وكما لو أن هذه المدة قد أكل الزمان على الصداقة وشرب، وهي لا تزال في طور البداية، ولكن من البشر أصنافا ضعيفة هي مداركهم، وصغيره هي عقولهم. ووقف عمر حائراً أمام هذه المصائب كلها، ما الذي يقوله لمبادئه التي باعها، وانطوائيته التي غيرها، وركائزه التي هدمها، كيف يعيد الأشياء لمواضعها، وإذا الرياح تخطفتها، وتخطفته هو أيضاً، فقلبه ساقط على بعد أمتار من يده المقطوعة وأشلاء جسده المتبقية، ورأسه مدفون مثل رأس النعامة.