الحديث عن طبيعة الإنسان والرعاية التي يتلقاها في حياته لا يخلو من الجدل، ومن الصعب الحصول على توافق في الآراء على المستوى الشخصي والعائلي والحضاري لأي مجموعة بشرية، وفي برمجة الإنسان أول من يجتهد هو الأب أو الأم أو كلاهما، وتكون على أشدها في أعوام الطفولة، ولا تتوقف محاولات الوالدين لبرمجة الأبناء حتى بعد سن البلوغ، ولكن هذه العملية قلما يحالفها النجاح بعد منتصف العقد الثاني، وفي مرحلة تنتقل البرمجة للجهات التعليمية، وهناك مصادر عدة أخرى تحاول برمجة الإنسان خلال تلك المراحل ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو ما علاقة الطب النفسي ببرمجة الإنسان؟ التداخل الطبي في شتى المجالات ينقل الإنسان من مرحلة مرضية إلى مرحلة صحية، ولكن الطب النفسي يختلف عن بقية الاختصاصات الطبية في سعيه الدائم إلى برمجة الإنسان لتغيير سلوكه وتفكيره، وعملية البرمجة في الطب النفسي لا تقتصر على الكلام فقط، وإنما تتجاوزها إلى التدخل في الناقلات الكيميائية الكهربائية في دماغ الإنسان حيث يوجد معالج المعلومات، ولا يزال رجال العلم والسياسة في شتى بقاع العالم في جدال حول دور الوراثة ورعاية بيئة الفرد في تطور الإنسان، والمصطلح الشائع استعماله في الوسط العلمي هو الطبيعة مقابل الرعاية Nature vs. Nurture لوصف هذا الجدال، والمقصود عن الطبيعة هو ما يحمله الفرد من جينات ورثها من الوالدين والتي تحدد درجة أو حاصل ذكائه، أما الرعاية فالمقصود بها غالباً رعاية الطفل في البيت ثم في المؤسسات التعليمية والاجتماعية والتي بدورها تلعب دورها، ضمن عوامل أخرى، في تحديد أداء الفرد تعليمياً واجتماعياً ومهنياً طول العمر. حقل الجينات السلوكية Behavioural Genetics هو من أكثر حقول علم النفس تطوراً في العصر الحديث حسب الدراسات العلمية، ويشير إلى أن بيئة الإنسان البيولوجية تتكون أصلاً من حوامض مرتبطة بعضها ببعض يطلق عليها مصطلح DNA ويفسر اختلافها بين الناس قدرة أداء الإنسان في شتى مجالات الحياة، هذا المحيط الكيميائي الموجود في كل خلية من خلايا الإنسان ينتقل عبر الوراثة، ومن أبرز الأمثلة تأثيرات العوامل الوراثية على التعليم المعاكسة لما يتوقعه البعض ويمكن حسابها كالآتي: 80 % على تعلم القراءة والكتابة، 70 % على تعلم الرياضيات، 60 % على تعلم العلوم. أما ما لا يحب الكثير سماعه فهو أن المنزلة أو المرتبة الاجتماعية الاقتصادية تتأثر بالجينات التي يرثها الإنسان بما يقارب 40 %، ولا تلعب الوراثة دورها فحسب في الأداء التعليمي والمهني ولكنها أيضاً في غاية الأهمية في ثقة الإنسان بنفسه، والحاصل النهائي للثقة بالنفس حيث يتم توارث نصفه على الأقل. بعبارة أخرى لكل إنسان قابلية على الأداء الموسيقي والقراءة وليس هناك ما هو غير طبيعي أو مرضي، ولكن صقل هذه الموهبة يعتمد على الجينات الأخيرة وتجاوبها مع تدريب الإنسان، فليس كل من يجيد الأداء الموسيقي أو العزف ينجح في التلحين الموسيقي، وهذا واضح للعيان.