كان عبد الرحمن الداخل (عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك) قد سار إلى بلاد الأندلس وأخضعها لحكمه بين سنتي 756 - 788م، فسمي بالداخل، ثم بنى فيها تاريخًا طويلاً ظل بلا شك أكثر التواريخ ازدهاراً، ولربما نسبت له نصف حضارتنا العربية على أقل تقدير، فضلاً عن كون دخول عبد الرحمن لإسبانيا جاء عبر مغامرة وجودية خالدة.. سُمي على إثرها «صقر قريش» إضافة إلى أن بناء تلك الدولة العظيمة في إسبانيا حينها، أطال من زمن بقاء المسلمين في تلك البلاد لأكثر من ثمانية قرون، وكل هذا بالطبع تاريخ عظيم حظي بالدراسات والتوثيق وحتى الأساطير إن شئنا أحياناً..! لكنّ مردّ تذاكره هنا واستحضاره عبر هذه السطور، هي تلك الأبيات المنسوبة إليه وهو يتغنى فيها بنخلة وحيدة نائية تنمو بين أشجار لا تشبهها، حيث تشير بعض الروايات إلى أنه استقدمها فسيلة من رصافة العرب، على الرغم من صعوبة تصور هذا مع وسائل نقل ذلك الزمن، ثم أطلق على المنطقة التي نمت فيها مسمى الرصافة؛ تيمنًا برصافة الشام التي أنشأها جده هشام بن عبد الملك.. تقول الأبيات المنسوبة على لسانه: تبدَّتْ لنا وسْطَ الرُّصافة نخلةٌ تناءتْ بأرضِ الغرب عن بلد النخلِ فقلتُ شبيهي في التغرُّب والنوى وطولِ التَّنائي عن بَنِيَّ وعن أهلي نشأتِ بأرض أنتِ فيها غريبةٌ فمثلُكِ في الإقصاءِ والمُنْتأى مثلي! وأيّا كانت صحة رواية نقل الفسيلة من بلاد العرب، أو حتى صحة نسب هذه الأبيات للداخل ذلك القائد العظيم إلا أنها تشكل بالنسبة لي حضورًا نوعيّاً للشعر وسط كل هذا التاريخ العظيم المكتنز بالمغامرة والمجد والحضارة، فحالة الغربة التي يحياها ذلك القائد العظيم لم تجد أجمل أو أنبل من الشعر؛ ليحملها إلينا تاريخًا موازيًا لكل تلك الحضارة العربية العظيمة التي تم توطينها في بلاد الغرب، ولا أضيف جديدًا حين أشير هنا إلى قدرة هذه الأبيات على استدرار الحنين واستدعاء كل ذلك التاريخ بل حتى اختزال «الوجود»؛ لذلك القائد الملهم في أبيات منحت الحياة والتأثير طوال تلك القرون التي تعاقبت عليها. إن استحضار هذه الأبيات وتداولها، بل ونسبها إلى قائد تاريخي هو إيمان ضمني بدور الشاعر في الوجود.. الشاعر الذي ربما يشكل تهديدًا وجوديّا لمن حوله، بعد أن يقتاتوا حتى على فتات ذنوبه وأخطائه، فالناقد والفيلسوف ورجل الدين يقضي كل منهم سنيناً مديدة في بناء وتشييد نظريته، ثم يأتي الشاعر بمطرقة رؤاه ووحي نبوءاته وتفرّد مخيّلته، ليكسر كل ما بناه هذا أو ذاك، لذلك كله احتاج الداخل القائد والأسطورة التاريخية للشاعر فيه؛ ليشكل نصفه الآخر الذي لن يهدد وجوده يوماً حين يتّحد الشجن بالمجد، والزمان بالمكان..! فاصلة: كل تاريخنا جملةٌ فعلها الآن ماضٍ وفاعلها «شاعرٌ» مستتر!