يرفض ديفيد هيوم فكرة السببية لخروجها عن الإدراك الحسي اليقيني، فكون أي مما نعده ينتج عن حدث سابق لاحقا له أو متزامنا معه لا يدل على أن ذلك كان علة له. لذلك لا يمكن القول بأن ظهور النبات بعد هطول المطر دليل على أن المطر نفسه علة في حدوثه. وعليه فإننا لا يمكن أن نقطع بشكل يقيني أن النبات سيظهر لاحقا بعد هطول المطر. نحن نتوهم أن المطر علة للنبات فقط؛ لأننا تعودنا هذه التراتبية في عالمنا. وعليه فإن هيوم يحطم فكرة الاعتماد على الاستقراء بهذا الشكل. ولكن لماذا نصر على مبدأ السببية ونرتب عليه حياتنا بالكامل تقريبا. يضع هيوم تفسيره ويحيل تعلقه بالعالم إلى تعلقه بالعقل البشري نفسه. وهو أن العقل البشري يعمل وفق خاصية تشبه خاصية القصور الذاتي المعروفة في الفيزياء. ما الذي يحصل عندما يستمر قارب بالتجديف في ماء النهر ثم يتوقف عن التجديف؟ إنه يستمر بالحركة إلى مدى معين دون تجديف اعتمادا على الدفع الذاتي المكتسب من حركة التجديف المنقطعة. عقولنا تعمل على هذا النحو أيضا بحسب هيوم. لذلك فإننا عندما نربط وفقا لإدراكنا أثرا ما بعلة له نستمر في عدها كذلك إلى مدى معين أيضا. توالت الردود على تفسير هيوم وفقا لهذه الصورة المجازية. ولكن بصرف النظر عما إذا وفق في تفسيره هذا لظاهرة اعتمادنا على السببية في الإدراك أم لا، إلا أن بحوث علم الدماغ الجديدة أثبتت هذه الخاصية جديًا للعقل البشري! أدمغتنا تعمل وفق خاصية القصور الذاتي بالفعل؛ ولذلك تجنح إلى ملء فراغات المجهول بناء على ما تستبطنه من تجاربها السابقة وتحقق بسبب هذه الخاصية الكثير من الإنجازات، كما تتورط أيضا بسببها في الكثير من الأخطاء. سأستعير الفكرة من هيوم لأحاول بها حل معضلة أخرى من الإشكالات الفلسفية وهي مشكلة (ثبات الهوية المادية عبر الزمن). فلنفرض أنك اشتريت سيارة على امتداد عشر سنوات، وتخلل هذه السنوات الكثير من تغيير القطع المكونة لها. هل سيارتك التي تمتلكها بعد عشر سنوات هي نفسها التي اشتريت أول مرة؟ قد تشعر بالارتباك حين مواجهة السؤال بهذا الشكل، ولكنك في أحوالك الاعتيادية ستستمر بالشعور أن سيارتك هي ذاتها رغم كل ما طرأ عليها من تغييرات، ومهما كانت تلك التغييرات جوهرية! لماذا؟ حاول الكثير من الفلاسفة وضع نظريات لحل هذه الإشكالية، وكان أغلبها يحاول تفسيرها من خلال تحليله لفكرة الهوية في العالم المادي أي عالم الأشياء وعلاقتها بالمكان والزمان. إلا أنني أرى أن بحث هذه المشكلة في طبيعة إدراكنا أكثر أولوية. نحن نعيش في عالم الحركة الذرية والتغير المستمر، ولكننا نواصل إدراكنا بواسطة أدمغة تعمل بخاصية القصور الذاتي لذلك فشعورنا بهوية الأشياء يكون سابقا لما آلت عليه بالفعل. أنت ترى أن سيارتك هي نفسها لأن إدراكك لها متعلق بما كانت عليه وليس لما هي عليه بالفعل! تستمر سيارتك بالتغير ولكنك تظل بعد كل تغير طارئ عليها تظنها الشيء نفسه حتى تستبطن لاحقا صورتها الحالية لتمضي بما استبطنته أطوارا إضافية من الزمن. الهوية ليست ثابتة ولكن إدراكك يراها كذلك لأنه أسرع منها بقدر معين من الزمن. الأمر أشبه بدراجة متحركة تشاهدها أثناء ركوبك سيارة تمر إلى جانبها بحيث لا تكترث لأي مسافة تمكنت من قطعها. هل تستطيع تصور الأمر؟