إن الشعور دائما ما يحثنا على عدم قبول نتائج منطقية يؤيدها العقل. وليس من الحكمة التنكر لشعورنا لمجرد أن العقل يرفضه. قد يكون العقل، وفقا لديورانت، خير مرشد لنا في تعقيدات الحياة المدنية وأمورها المصطنعة ألف كانط كتابه (نقد العقل المحض)، وناقش فيه شروط قيام العلم، ممثلا بالرياضيات، والتي تعتمد على الإمكان القبلي ثم الإمكان التركيبي فيما بعد، لإنتاج معرفة علمية يقينية ضرورية، والتي يُنتج المحمول فيها شيئا جديدا لم يكن متضمنا في الموضوع. ومن هذا التأسيس يصل كانط، كما يقول (سمير بلكفيف) في كتابه (التفكير مع كانط ضد كانط): "قيام الميتافيزيقا، ومنها ما يتصل بجانب الأخلاق، ليس معتمدا على العقل العلمي النظري، بل على العملي الأخلاقي". لقد أخذ كانط على كل الفلسفات السابقة، سواء أكانت عقلية أم تجريبية، أنها أغفلت النظر في العقل ذاته، من حيث هو ينبوع كل معرفة، وبدلا من ذلك، نظرت في المعارف كلها بواسطة العقل، بوصفه، أي العقل، معصوما لا مجال للتشكيك في إمكاناته المكتملة. وهذا ما دفعه، أعني كانط، إلى النظر في العقل من حيث إمكاناته وطاقاته، بغية الوصول إلى ما قد يستطيع بلوغه، وما لا يستطيع، ومن ثم الوصول إلى القواعد والمبادئ التي تضبط المعرفة من جهة، والأخلاق من جهة أخرى. الأخلاق بوصفها ميتافيزيقا جعلت كانط ينصرف إلى تأسيسها فلسفيا على ما سماه (العقل العملي). حيث مهد لها بتساؤلات، كما يقول(ول ديورانت)، من قبيل:" هل لدينا آراء فطرية عن الخير والشر، عن القبح والحسن، آراء يرثها العقل من لحظة الولادة، وسابقة لجميع أنواع التجربة"، أم أن هذه الآراء عن هاته القيم مؤسسة على التجربة البشرية، بمعنى أنها منتج ثقافي اجتماعي، بما يعني نسبيتها من مجتمع لمجتمع، ومن زمن لزمن؟ أعلن جون لوك (توفي عام 1704) قبل كانط أنه لا مبادئ فطرية في العقل، وأن كل معارفنا، بما فيها ما يختص بالقيم والأخلاق، إنما يأتينا من التجارب عبر الحواس، وأنه لا شيء في العقل سوى ما تنقله الحواس من الطبيعة المحسوسة. وأن العقل يكون عند ولادة الطفل صفحة بيضاء خالية من كل شيء، فتأتي التجارب وتملؤها بالخبرات عن طريق ما تنقله إليها الحواس إلى أن تتولد الذاكرة من كثرة ما ينقل إليها، وعندها تتكون الآراء والقيم. وكما هز لوك العالم بتأكيده على أنه لا شيء سوى المادة التي تنقلها الحواس إلى العقل، فإن جورج بركلي (توفي عام 1753) قد هز العالم حينها مرة أخرى حين أكد على أننا لا نعرف من المادة إلا الإحساسات التي تنقلها الحواس إلى العقل، فلولا الحواس لما كان للأشياء الخارجية وجود. ومع ذلك، فلم تقف الصدمات التي يطلقها الفلاسفة آنذاك عند هذا الحد، حيث جاء ديفيد هيوم (توفي 1776) بعد بركلي، لا لينكر وجود المادة فحسب، بل لينكر وجود العقل أيضا بقوله: إننا إذ لا نعرف المادة إلا عن طريق الإحساسات فحسب كما قال بركلي، فإننا أيضا لا نعرف العقل ذاته إلا عن طريق الإحساسات أيضا. إننا، كما يقول هيوم، لا ندرك العقل كذات مستقلة، بل كل ما نشعر به إنما هي آراء وذكريات ومشاعر. إن العقل ليس جوهرا أو عضوا مستقلا، بقدر ما هو اسم مجرد لسلسلة من الآراء والذكريات. إن المشاعر والذكريات والإحساسات هي العقل، وليس هناك نفس منظومة وراء عملية الفكر. جاء كانط في وقت تعقدت فيه أمور الفلسفة، وانهارت المادة والقيم والعقل. إذا كان العقل ينتهي، وفقا لفلاسفة التنوير، إلى تأييد المذهب المادي، ومن ثم الإلحاد، فإن المادة لا وجود لها، كما أكد بركلي. والعقل من جهة أخرى لا وجود له كما أكد هيوم. ومن الممكن أيضا، كما قال ديورانت، القول بأن العقل من ثم ليس المرجع النهائي في الحكم على الأمور، وفي وقت نادى فيه روسو(توفي عام 1778) بأسبقية الشعور على العقل. إن الشعور دائما ما يحثنا على عدم قبول نتائج منطقية يؤيدها العقل. وليس من الحكمة التنكر لشعورنا لمجرد أن العقل يرفضه. قد يكون العقل، وفقا لديورانت، خير مرشد لنا في تعقيدات الحياة المدنية وأمورها المصطنعة، ولكننا نثق بمشاعرنا في الأزمات الكبيرة التي تواجهنا في حياتنا، وفي قضايا الإيمان والسلوك أكثر من الثقة بعقولنا. وليس العقل قاضيا في المسائل الميتافيزيقية يُنتهى إلى حكمه. إننا نميل بفطرتنا إلى رفض كثير من النتائج المنطقية التي ينتهي إليها العقل. ويجب ألا يفوتنا أن الميل الغريزي الشعوري أسبق عهدا من العقل الذي نريده حَكَما في مسائل ليست في قدراته. تساءل كانط في كتابه (نقد العقل الخالص)، إن كان في طبيعة العقل وتركيبه ما يمكنه من الوصول إلى بعض المعارف دون الاعتماد على ما تأتي به الحواس من العالم الخارجي؟ وخلص إلى القول بأن "التجربة ليست الميدان الوحيد الذي يحدد فهمنا؛ لذلك، فهي لا تقدم لنا إطلاقا حقائق عامة. هي تثير عقلنا المهتم بهذا النوع من المعرفة بدل أن ترضيه وتقنعه؛ لذلك، لا بد أن تكون الحقائق العامة التي تحمل طابع الضرورة الداخلية مستقلة عن التجربة، وهي واضحة ومؤكدة بنفسها. إذ لا بد أن تكون حقيقية بغض النظر عن نوع تجربتنا الأخيرة، وحقيقية حتى قبل التجربة". العقل يسبك التجربة وينظمها في إطاري الزمان والمكان وينظمها وفق مقولاته. لكنه لا يستطيع تجاوز الظواهر والمحسوسات. بمعنى أن قبلياته ومقولاته مؤهلة للتعامل مع الظواهر فقط. ومن ثم فإن تجاوزه للظواهر لن يورثه إلا التناقض، إلى جانب عدم تحصيل معرفة يقينية. ويضرب كانط مثلا لتناقض العقل عندما يتخطى المحسوس والعالم الطبيعي بقوله: إذا حاول العقل أن يقرر فيما إذا كان العالم محدودا، أو (لانهائيا) من حيث المكان، فسيقع حتما في تناقض وإشكال، فالعقل مسوق إلى التصور بأن وراء كل حد شيئا أبعد منه، وهكذا إلى ما لا نهاية. ومع ذلك، فإن (اللانهاية) في حد ذاتها شيء لا يمكن إدراكه. محصلة ذلك أن العقل مصمم إلهياً للتعامل مع الطبيعة ومحسوساتها فقط. وما أن يتعدى مجاله هذا حتى يقع في الحيرة والتناقض، ولا بد له حينئذ من ترك أمور ما وراء الطبيعة، وباللغة الفلسفية (الميتافيزيقا)، للقلب والشعور، اللذين هما أسبق من العقل، وأكثر منه قدرة على التعامل مع ما وراء الطبيعة. لمراسلة الكاتب: [email protected]