العنوان: مبحث في الفاهمة البشرية. المؤلف: ديفيد هيوم. المترجم: موسى وهبة. الناشر: الفارابي للنشر والتوزيع. تاريخ النشر: 2008 عدد الصفحات: 221صفحة. مؤخرا صدرت الترجمة العربية الكاملة لأحد أهم كتب الفيلسوف الإنجليزي ديفيد هيوم (1711- 1776) "مبحث في الفاهمة البشرية". وهو الكتاب الذي كتبه هيوم خصيصا ليكون تبسيطا وتوضيحا لأهم أفكار فلسفته خصوصا تلك التي وردت في كتابه الضخم رسالة في الطبيعة البشرية الذي لم يلق نجاحا بسبب تعقيده كما يرى هيوم أو بسبب لهجته الصريحة التي لم تخل من الاندفاع كما يرى راسل. يعتبر هيوم أحد أكبر فلاسفة التجريبية في القرن الثامن عشر. والفلسفة التجريبية هي الفلسفة التي تعتقد أن المعرفة البشرية ناتجة عن طريق الحواس من خلال التجارب التي يخوضها الإنسان. وهي بهذه الصورة تأتي في مقابل الفلسفة العقلانية أو المثالية التي ترى أن العقل البشري يحتوي بطبيعته وفطرته على أفكار سابقة للتجربة أو ليست نتاجا لها. كانت المدرستان العقلانية المثالية والتجريبية تمثلان قطبي الفلسفة الحديثة ويمكن أن نقول ان هذا التقسيم لا يزال صحيحا رغم أن الكثير من المدارس الفلسفية تجاوزت هذا التقسيم كما نجد اليوم مع جون سيرل.يقول كانط ان فلسفة هيوم أيقظته من سباته الدوغمائي فقد كان مثاليا مغاليا. لم يصبح كانط تجريبيا بحتا ولكنه ابتكر فلسفة تصل بين الفلسفتين فأقر بأن المعرفة البشرية تكتسب بالتجربة ولكن العقل البشري يحتوي على مقولات سابقة على التجربة كمفهوم الزمان والمكان. ولد هيوم في اسكتلندا وكان أبوه محاميا توفي وهو صغير. درس الفلسفة مبكرا ورفض أن يكون محاميا وجرب حظه في التجارة ولكنه فشل. رحل لفرنسا وألف فيها كتابه رسالة في الطبيعة البشرية ثم أصدر موجزا له ثم ألّف كتابه "مباحث أخلاقية وسياسية". ثم أصدر كتابنا هذا مبحث في الفاهمة البشرية. ثم أصدر "مقالات سياسية" و"تاريخ بريطانيا العظمى" ثم طبع بعد وفاته "محاورات في الدين الطبيعي" وهو الكتاب الوحيد الذي عثرت عليه مترجما للغة العربية. وهو من ترجمة الدكتور محمد فتحي الشنيطي وصدر عن دار الحداثة ببيروت. سنة 1980.أيضا عثرت في الإنترنت على مقالة بعنوان "حول العقد الأصلي" يفسر فيها نشوء الحكومات. فلسفة هيوم: نفي السببية طمح هيوم ومنذ البداية إلى تأسيس علم للإنسان وهذا الطموح دعاه إلى البحث في الطبيعة البشرية وكانت نقطة البداية في هذا البحث هي البحث في نطاق قدرات الإنسان الذهنية والحدود التي لا يتعداها. وهيوم فيلسوف حسي مغال كما يصفه بدوي في موسوعته وهو يرى أن إدراكات الذهن جميعها إلى صنفين أو نوعين يتميزان باختلاف درجة القوّة والحيوية. فالتي من نوع أقل قوّة وأقل حيوية تسمى أفكارا أما الأخرى فهي انطباعات "والانطباعات هي وحدها الأصلية أما الأفكار فما هي سوى نسخ من انطباعاتنا". أي أن الأفكار هي مجرد انعكاسات باهتة للإحساسات على مرآة أفكارنا. ولهذا فإن الانطباعات أقوى من الأفكار وأشد تأثيرا وحيوية. وباستخدام الذاكرة والخيال نرتب أفكارنا. وينكر هيوم أن تكون لدينا أفكار عامة مجردة ، بل يرى أن أفكارنا هي عن أشياء جزئية يمكن النظر فيها بطريقة جامعة وذلك عن طريق ألفاظ كليّة. من أهم المسائل التي أثارها وبحثها هيوم وانتشرت بين الباحثين باسمه مبحث العلّية أو السببية فقد أنكر هيوم أن تكون هناك علاقة ضرورية بين السبب والمسبب أو بين الحدث والنتيجة. وهذا الموقف شبيه بموقف الغزالي أو المتكلمين الأشاعرة الذين ينفون السببية بمعنى أن تكون النتيجة متضمنة بالضرورة في السبب. وإن تشابهت الآراء إلا أن المنطلقات مختلفة تماما فالغزالي أنكر السببية من أجل التوحيد والاحتفاظ بقدرة التسبيب والفعل للخالق وحده. والقول بأن الأشياء تمتلك في ذاتها قدرة على الإحداث يتعارض برأيه مع عقيدة أن الله هو الخالق وحده. أما إنكار هيوم للسببية فهو نتيجة لنظريته في المعرفة باعتبارها نتاجا للتجربة الحسية. والتجربة الحسية لا تشهد إلا بوجود تكرار بين الأحداث والنتائج وأن هذا التكرار هو ما جعلنا نتوهم أن هناك علاقة ضرورية بين الحدثين. يقول برتراند راسل في كتابه حكمة الغرب من أجل شرح موقف هيوم "يختلف هيوم مع العقلانيين فهم يرون أن الرابطة بين العلّة والمعلول سمة كامنة في طبيعة الأشياء مثال ذلك ما رأيناه عند سبينوزا من اعتقاده بأنه من الممكن ، إذا ما تأملنا الأشياء بقدر كاف من الرحابة والاتساع أن نثبت بطريقة استنباطية أن كل الظواهر ينبغي أن تكون على ما هي عليه ، وإن كان من المعترف به عادة أن الله وحده هو القادر على رؤية الأشياء من هذا المنظور. أما في نظرية هيوم فإن هذه الروابط السببية لا يمكن معرفتها..". وربما يبدو الاختلاف بين العقلانيين والتجريبيين في مفهوم العلّية شكلي وصوري فالكل لا يستطيع التفكير دون هذا المفهوم ، لأن الفهم هو ربط الأشياء بأسبابها ولكن الفرق بينهم أن العقلانيين يرونه جوهريا في ذات الأشياء والتجريبيين يرونه مجرد تتال وتكرار. لكن خطر الاعتقاد بضرورة السببية عند العقلانيين قد يؤدي إلى الوثوقية والتعصب بحكم أنهم يعتقدون أنه إذا وجد أ فلا بد أن يحدث ب. علاقة"لا بد" هذه حين تستخدم خصوصا في العلوم الإنسانية وفي تفسير الأحداث الإنسانية تصبح سببا في التعصب للرأي والتطرف له. من جهة أخرى قد يؤدي إنكار السببية إلى الشكية المطلقة وإبطال العلوم والدراسات بحجة أن كل شيء ممكن. لكن شكيّة هيوم هي شكيّة منتجة فالشك فيها كما في اللفظ اليوناني الأصلي يعني ببساطة البحث بعناية ودقة. فالشكاك بهذا المفهوم يبقى دائما يفتح مجالا للمراجعة وتغيير الرأي. وهذا ما يؤدي إلى استمرار البحث والتحري. الكتاب يتكون الكتاب من اثني عشر فصلا تسبقها مقدمة للمترجم د. موسى وهبة وتنبيه للمؤلف. الفصول هي كالتالي: في نوعي الفلسفة المختلفين الأولى تنطلق من كون الإنسان كائنا فاعلا منقادا للشعور والذائقة والثانية تنطلق من كون الإنسان كائنا عقليا أيمكن أن نقول المدرسة الشعورية والمدرسة الذهنية ، الفصل الثاني في أصل الأفكار التي هي الانطباعات. الفصل الثالث: في تداعي الأفكار وفيه مدخل لبحث العلية . الفصل الرابع: شكوك ريبية بصدد عمليّات الفاهمة وفيه يسوق هيوم عددا من الحجج على مفهوم السببية العقلاني. وفي الفصل التالي: "حل ريبي لتلك الشكوك" وفيه يوضح أكثر هيوم موقفه من السببية ويهاجم فيه بعنف الفلسفة المثالية. الفصل السادس: "في الاحتمال" وفيه مناقشة للاحتمال من خلال المصادفة. الفصل السابع: "في فكرة الاقتران الضروري". الفصل الثامن: في الحرية والضرورة وفيه مناقشة جميلة ورشيقة للحرية والحتم ، التخيير والتسيير.وفي هذا الفصل يحمّل هيوم الفلسفة الميتافيزيقية مسؤولية اختلاق ألفاظ وهميّة عطّلت التفكير. الفصل التاسع: في عقل الحيوان. الفصل العاشر: في المعجزات. أما الحادي عشر ففي العناية الإلهية المخصوصة والحياة الآخرة أما الفصل الأخير فهو في الفلسفة الأكاديمية أو الريبية. والفصول الأخيرة خصوصا المتعلقة بالدين فصول جريئة وتردد هيوم كثيرا في نشرها ولكنه فعل. تنبؤات هيوم الخاطئة تنبأ هيوم ص 24بعدد من التنبؤات التي أراد بها إثبات فكرته وهي أن الفيلسوف صاحب الأسلوب السهل والبعيد عن التجريدات هو الذي سينجح فيما سيندثر الفيلسوف المتعمّق في لطيف تعليلاته. فمثلا تنبأ هيوم بأن شيشرون سيزدهر بينما سيندثر أرسطو وينتشر لابرويير (أديب فرنسي) فيما سينكمش مجد مالبرانش (أحد أهم تلامذة ديكارت) كما تنبأ هيوم بأن أديسون (شاعر إنجليزي) سيقرأ بلذة فيما سينسى جون لوك تماما. ولكن التاريخ كذّب نبوءات هيوم فأرسطو لا يزال حاضرا بقوة ولا تزل فلسفة لوك تجذب اهتمام الباحثين حتى اليوم بلا مقارنة مع شيشرون وأديسون ولابرويير دون الانتقاص من قيمتهم. كان هيوم مندفعا لآرائه كثيرا فمثلا نجده في الفقرة الأخيرة من الكتاب يقول وهي عبارة اشتهرت عنه كثيرا "حين نطوف في المكتبات مزودين بهذه المبادئ ، مبادئ فلسفته ، ماذا علينا أن نتلف؟ إذا أخذنا بيدنا أي مجلد في اللاهوت أو في الميتافيزيقا المدرسية مثلا ، وتساءلنا هل يتضمن أي تعديلات تجريدية حول الكم والعدد؟ كلا . هل يتضمن تعليلات تجريبية حول وقائع ووجود؟ كلا. إذن ارمه في النار لأنه لا يمكن أن يتضمن سوى سفسطات وأوهام". الجميل أن هذه النصيحة لم تطبق بشكل عام ليثبت التاريخ أن الإنسان أكثر تنوعا وتعددا وفضاءات من أن يحصره أي مفكر أو فيلسوف.