كمياه خليجنا الدافئ، ماج وجدان القصيبي فنزّ الدرّ الناصع شعراً جزلاً في حناياه، وانغرست في صدره خُضْر النخيل، فكان واحة من واحات الأحساء، جادت مزاياه وتأصلت في روحة حلاوة رطبة فغلبت مُرّه، حتى فاض وانهمر عذباً زلالاً، وهو الشاعر المرهف، يتيم الأم في المهد، فقد تناوبت عليه صرامة الوالد، ولين الجدة، فساهمت كما قال بشكل إيجابي فعال في سبك شخصيته. هو إحدى القامات الثقافية في المملكة، الأديب المجدد، والدبلوماسي المحنّك، ورجل الدولة المتفاني أينما حلّ، من رواق الوزارة إلى بهو السفارة، الراحل غازي بن عبدالرحمن القصيبي، كان ابن الأحساء وربيب المنامة، لكنه المنتمي للوطن العربي على امتداده وزخم قضاياه التي رصدها موقفاً وأدباً. يستوقفني من الأديب الشعرُ فله ما يربو على الأربعة عشر ديواناً، صدرت كلها في حياته، كان آخرها ديوان البراعم، الذي احتوى أكثر من خمسين قصيدة كتبها بين سنيّ السادسة عشرة والتاسعة عشرة، عائدًا في ذاكرته إلى نحو نصف القرن إلى ما اختطه في مقتبل العمر وفورة الشباب، ففي عام 2008 أي قبل رحيله بعامين، آثر أن يطرق باب الذاكرة ويستدعي نخله ولؤلؤه، وشيئاً من فقده، وكأنّه يجس أمومة لم يكتمل وطره منها فكان نصيب الديوان قصيدتين عن الأم، أمّاه ورسالة إلى أمي. وأتوقف عند قصيدة "أمّاه"، رغم أنّه لم يكن يعي فقد والدته حيث كان في عمر الأشهر حين وفاتها، إلّا أن المخيلة والملكة الشعرية أتاحت له مشهداً حيّاً حينما قال: أمّاه لن أنسى وداعك إذ أتيتِ لمخدعي وهمستِ بي بين التأوّه والدموع الهُمّعِ أَ بُني إن تذهب فطيفك سوف تتركه معي هنا يستحضر الشاعر لحظة وداعٍ مختلقة في ذهنه تنبئ عن حرقة خلفها رحيل الأم، وكأنه تمنى على عذاب تلك اللحظة أن يحضرها لتودّعه. كما صوّر المشهد عكس ما كان فنسب الذهاب إلى نفسه لا إلى والدته، ثم يكمل ما يتصوره من مواساة والدته له: أحسستُ أنكِ هاهنا قربي.. توّسد أضلعي وضممتني وهتفتِ بي أَ بنيَّ لا تتوجعِ ثم يرحل بنا في أبيات لعلها تفسر لنا كل النجاحات التي حققها الشاعر أديباً ورجل دولة في نسبتها إلى وصايا والدته وهي تودعه لحظة موتها فيقول: أ بنيّ سِر نحو العلا في وثبة وتطلّعِ سِر في ميادين الحياة وشُد بناءك وارفعِ فالمجد للساعين لا للخاملين القُنّعِ ظهور الديوان في سني الشاعر الأخيرة، إشارة ضمنية إلى استثنائه أو تأجيله على أقل تقدير كشف ونشر قصائده الأولى البليغة والتي تنم عن عاطفة دفّاقة آثر القصيبي إخفاءها في حياته، ووجهها بالعمل والمثابرة لوطنه وانتصاره لابن أرضه في معارك الحياة، فكان أن أهدته الحياة مجدًا لم يطلبه، وخلّد الشعر ذكره وبنى له صرحاً في ذاكرته، فصار فيه علامة فارقة، لم يأخذ حظه من الدراسة والنقد الأدبي حتى بعد عقد من الرحيل. غازي عبدالرحمن القصيبي