يبقى التسامح مشروعاً حضارياً وإنسانيًا، فالتسامح يقرب المسافات بين المجتمعات الإنسانية، ويضع الإنسان في حالة انسجام مع العالم، وعند ذلك يرتبط العالم تسامحيًا مع بعضه البعض بحفاظه على شبكة علاقاته قوية ومتماسكة، فالعلاقات المضطربة في منظومة القيم لها نتائجها العكسية في منظومات المجتمعات.. العلاقة مع الآخر موضوع اجتماعي كبير ينبغي أن يأخذ موقعه المتقدم في الدراسات الاجتماعية والتعرف عليه عن قرب والحكم الموضوعي عليه وتبين الوسط الذي يؤثر فيه ومدى تأثيره على النسيج الاجتماعي والوحدة الوطنية. هذا، ومعروف أنه من حق المجتمعات أن تعمل على حماية كياناتها وحق المجتمع في البقاء يقدم أحيانًا على حقوق الأفراد. فهناك كثير من الظواهر الفردية قد تشكل ظواهر اجتماعية عندما تتكاثر ولذلك تدرس من حيث أثرها على النسيج الاجتماعي والوحدة الوطنية وهل هي على وفاق مع قيم الوحدة الوطنية أم أنه أثر سلبي يؤدي إلى اضطراب المعايير الاجتماعية والعلاقة مع الآخر إحدى تلك الظواهر؟ فكل الحياة فيها طرف آخر أو أطراف أخرى والحل معرفة المدخل الصحيح للعلاقة مع الآخر. فالكثير من المجتمعات تعاني من اضطراب العلاقة مع الآخر والقليل من المجتمعات من يحافظ عليها. فإذا ما افترضنا أننا توصلنا إلى قناعة واضحة بأهمية العلاقة مع الآخر عندها لا يكون مهمًا أن يكون المشترك الذي يلتقي عليه الطرفان فكريًا أو مصطلحاتيًا أو أيديولوجيًا بمقدار ما يكون وطنيًا وحضاريًا وإنسانيًا. فمجتمعنا مثلًا يتميز بتركيبة اجتماعية وثقافية فريدة مرت بتعاقب تاريخي متجانس ومنسجم في وحدة وطنية حضارية وإنسانية ليس لها مثيل. فالمجتمع المتوحد يفرض نمطًا معينًا من العيش المشترك يقوم على أساس الاحترام المتبادل ليس فقط باحترام الإنسان في ذاته وإنما بالاحترام الطوعي المبني على التآلف المجتمعي بين مكونات المجتمع ليكون مجتمعًا مفتوحًا على تنوعاته في إطار الوحدة الوطنية. فقد أكدت الدراسات الحديثة أن المجتمعات التي تسود فيها قيم التعايش والتسامح تكون نموذجًا مثاليًا للحياة المنسجمة المعبرة عن روح المجتمع تقوم على مفردات التسامح والتعايش. فثراء الروح البشرية في التساكن الحضاري والانفتاح والتوحد مع الآخر. لقد شكل العصر الحديث مفهومًا جديدًا للغة الإنسانية تقوم على مفردات التسامح والشفافية فالتربية الإنسانية الحقيقية تحيل إلى الفارق النوعي للإنسانية. ولكن كيف يتسنى لنا تبني هذه التربية الإنسانية؟ بالاستجابة للتغيير والانفتاح على الآخر واعتناق قيم التسامح والمرونة الحضارية وعفوية الانسجام. إلا أننا أحيانًا لا نفرق ما بين قيم الوسيلة وقيم الغاية والأخلاق الثابتة والأخلاق المؤقتة أو موقفنا من الصواب والخطأ. فعندما نعيش الحياة وفقًا لقيمنا العليا وأعمق قناعاتنا ينتابنا شعور رائع حيال أنفسنا ونعيش الحياة عيشًا إبداعيًا نوعيًا. ذلك أن كثيرًا من الأحداث التي تقع في العالم اليوم تفتقر إلى التسامح كمبدأ أخلاقي وقيمة إنسانية، فالعزلة القائمة بين الثقافات والمجتمعات الإنسانية تستوجب التسامح الإنساني. فالقيم الإنسانية التي يستند عليها مفهوم التسامح تقوم على الجذر الأخلاقي للإنسانية إذ لم يعد الإنسان اليوم نتاج التقاليد والبيئات التقليدية وإنما نتاج القيم الإنسانية. ولذلك يبقى التسامح مشروعًا حضاريًا وإنسانيًا، فالتسامح يقرب المسافات بين المجتمعات الإنسانية، ويضع الإنسان في حالة انسجام مع العالم، وعند ذلك يرتبط العالم تسامحيًا مع بعضه البعض بحفاظه على شبكة علاقاته قوية ومتماسكة، فالعلاقات المضطربة في منظومة القيم لها نتائجها العكسية في منظومات المجتمعات. إن بمقدورنا الوقوف على الروعة الكامنة في هذا العالم ولكن أن نتعامل مع العالم كما هو، وننظر إلى الآخر بمنظور إنساني على سبيل الإحساس بالتكامل مع الوجود البشري وبالانسيابية مع العالم. فنحن نعيش اليوم في أكثر عصور التاريخ الإنساني تمدنًا وتوسعًا وثراء، ذلك أننا لن نستطيع أن نشيع النور إذا لم نكن قد استنرنا، ولن ننفتح على العالم إذا لم نكن قد انفتحنا، فالانفتاح المقترن بالأخلاق الإنسانية والتسامح المنهجي يقرب المسافات بين المجتمعات الإنسانية ويضعها في حالة انسجام وتماسك.