الفكرةُ في ميلادها الأول حلٌ لمشكلة، سلوكٌ بشري يعبّرُ عن غريزة مُلحة للبقاء والتجاوز أمام حتمية المجهول، فالفكرة في الغالب ابنة الحالة، المكان، الثقافة أو الاحتياج. تفكِّر البشرية على الدوام في علاج فوري للسرطان، في بطارية جوال تدوم للأبد أو ربما في ذكاء اصطناعي يفكر عنك، وأكثر. فالعقل البشري مجرّةٌ شاسعة تتوالدُ فيها الأفكار وتموت على الدوام، في حركة أشبه بها بديمومة الليل والنهار. فبالرغم من أنني ذكرت في البداية أن الفكرة في الغالب حل لمشكلة.. إلا أن الفكرةَ ذاتها "مشكلة" حينما تكون حبيسة "التّفكير" أو مسلوبة "التّفعيل" في حدود الهذي والبربرة. إذاً الفكرة التي تدور في خلدك قيمتها "بالكثير" كوب قهوة ولحظة نشوة.. أو بلغةٍ أوضح.. لا شيء! ولكن لماذا هذا الارتباط الوثيق بالفكرة؟ والتشنج المستمر في التحفظ عليها والخوف من مشاركتها، أو أحياناً في السعي الحثيث لحمايتها، والركضِ خلف كلِ ما شابهها من أفكار تحت عنوان "فكرتي"، حتى وإن كانت فكرة مجردة في حدود التفكير فقط؟ في علم النفس، هناك ظاهرة مُعرّفة ب تأثير الهِبة أو "Endowment effect" والتي توضح الارتباط الإنساني الوثيق بالشيء حالما يتملكه أو ينتجه، وهي ظاهرة سلوكية مبنية على التكوين الحميمي المباشر بين الذات والأشياء التي نعتبرها مِلكاً لنا. لطالما وقع أصحاب الأفكار في شِراك "غرام الفكرة" ظناً منهم أنها ذاتُ خصائص مميزة وفريدة أو أنها سبيلهم لتحقيق النجاح المزعوم أو المكانة المأمولة، فقط بمجرد التفكير فيها لا غير. للسلوك الجمعي والثقافة العامة دور جوهري في تشكيل رغبةِ التملكِ الفردية، والإيهام بنشوة فلاشات النجاحات السريعة والتعلق بها، لأنها تراود فيك شعور الإنجاز ولكن لا تحققه، فتجعلك في حالة من إدمان وهم التحقيق، وتكون سجينها! ولكن هل جميع الأفكار حقاً لا قيمة لها؟ نعم، ولا! فالأفكار المجردة تظلُ أفكاراً جميلة تعيشُ في الخيال أو في حدود طاولةِ حوار، ما يكسبها قيمة فعلية هي الخطوة التالية بالتنفيذ والاستثمار. فالعملُ هو العنصر المحفز لكيمياء الفكرة، والذي يجعل منها رواية، دواء أو مشروعاً بمليون دولار. فلا تقلق كثيراً على ثروتك الفكرية إن كانت في خزنتك الدماغية فقط لأن "الفكرة يمكن أن تحمى بشرط أن يتم إضافة جهد أو مال أو تعبير للفكرة يجعل منها شيئاً جديداً وملموساً وله وجود حقيقي" كما عرفتها الهيئة السعودية للملكية الفكرية. فالأفكار العظيمة تحتاج لعمل عظيم واجتهاد، لتكون منتجاً نوعياً وقيمة ملموسة في الواقع. والأنجح هو الأسبق في التنفيذ والأسرع في الانتقال من نشوة التفكير إلى حيز التفعيل.