في العزل تأخذ الأشياء أحجامًا جديدة، تتقزم أشياء بينما تتعملق أخرى، ليس بالخداع البصري وإنما هو الخداع القصدي المعنوي، يسقط بعضه ويتضخم بعضه. أفكر غالبًا في الطبيعة، وبمعجزة التجول على غير هدى في غابة أو على قمة جبل أو شاطئ بحر، أوجه كاميرا هاتفي لزوج اليمام الذي ظهر يحوم مع بداية الربيع، وبلا شك اختار بقعة فوق نافذتي لبناء عشه. اليمامة بطوقها الأبيض تختبئ في حوض نبات النافذة المقابلة تلقط البذور التي زرعها الجار بالأمس، فالطيور تفتقد مخلفات البشر المحجورين، شح البذور يغري اليمامة بقضمات من النرجس، مغامرة لمذاقات جديدة تشجع الذكر على الانضمام إليها مدسوسين في النرجس، ثم لا تلبث أن ترفرف أجنحتهما في عدسة كاميرتي. مذهلة هي تفاصيل الحياة التي تفوتنا حين يُفرّجُ عنا، مثل هذه الخنزيرة "إيما Emma" التي تنبسط على سقف سريري وتنفرد بدور البطولة في فيلم "أكبر مزرعة صغيرة The biggest little farm" من إخراج "جون تشيستر John Chester"، الذي يوثق لتجربة الزوجين الأميركيين اللذين أقاما مزرعة تعتمد وسائل الزراعة التقليدية والقائمة على أسلوب "الزراعة الدائمة permaculture" على مسافة 200 فدان خارج لوس أنجلوس، هذا ولقد نجحا بعد صراع سبع سنوات مع الصعوبات في خلق وسط حيوي يتوافق فيه الوحشي والهجين، نظام يسهم في إعادة بناء النظام البيئي الذي تمزقه الزراعة الميكانيكية التي تنهك الأرض. إيما هي التي تسرق الأضواء، هذه الخنزيرة التي انضمت إلى هذه المزرعة التجريبية، إيما التي تصبح البطلة التي تجول في فراغ صالونك تتأمل معك صولات الكورونا، لكن لكأن المرض والموت لا يعنيها ولكأنما مهمتها الحياة، خنزيرة هي بطلة التأمل بلا منازع، حيث لا تفعل شيئًا غير التمدد في الطين باستسلام كامل بحيث ينزلق عنها حتى الوقت وسطوته، إيما التي تمر بمخاض الولادة دون أن يطرف لها جفن، تمنح الحياة وفي حمل واحد لخمسة عشر وليدًا، الواحد تلو الآخر تخرج من الرحم وتندفع بحماسة لضروع الأم، ترضع بشراهة، بينما الأم لا تزال في مخاض الولادة، لا تبخل ضروع إيما تمنح الحليب بينما الرحم لا يزال يتمخض ليمنح الحياة، إيما ليست خنزيرة فقط وإنما هي القبول والاستسلام المطلق، وهي مثال شهادة على قوة الحياة التي تخترق في الطين وفي الصخر وفي النيران والكوارث والأوبئة وتعود تنبثق بعنفوان، الحياة التي توظف حتى جبروت الفيروس لشحذ عنفوانها.. الحياة التي نرقبها في مواليد جدد وكهول يقاربون أو يتجاوزون المئة من العمر، ويجتازون الكورونا ببساطة كمن يذهب في نزهة، مما يكرر لنا أن الفيروس ليس بعدو، وما هو إلا ظاهرة من ظواهر الاضطراب الكوني، الاضطراب الذي يقود بالنهاية لتوازن وانسجام يفوق قدرتنا نحن البشر الآن على الفهم، الفيروس عامل توازن، اضطراب يقود لتوازن، كيف نفهم هذا حين يتساقط البشر مرضى ويرحلون في قافلة الموت ويخلوننا في الحجر الصحي الذي يأخذ يتمدد بلا بصيص لخاتمة؟ أين سينتهي العالم بعد الكورونا، إن كان هناك بعد؟ سؤال يظل يلح كل صباح بمجرد أن نفيق.. تخرج حينًا وتتراجع في كثير من الأحيان، تخرج ويلاحقك حس من يخرج لساحة معركة لعدو خفي، حيث قناصته لا يصيبونك برصاصة تتفجر فيك وتعلنك بالعطب، وإنما يصيبونك برصاص خفي لا يترك أثرًا تلخطه حينها، لترجع لأحبتك توزع عليهم وبطمأنينة مطلقة رصاصة الكورونا تلك التي تنقسم لرصاص بلا عدد يفتك بما لا حصر له من الضحايا الأقرب فالأقرب لك. تستمر تحذيرات الأحبة والأهل، تفكر هو أوان البطولة والتضحيات، نعم أتسابق وشادية في التضحية بالتبرع لحمل مسؤولية التموين في زمن الكورونا، بعد عدد لا بأس به من المغامرات يفاجئونك بالقول إن الذين في عزلة تامة قد يصبحون أكثر هشاشة حين ينتهي الحجر ويحين خروجهم للحياة؛ لأنهم لم يلتقوا السيد كورونا في طريق، ولم تتكون لديهم مناعة ضده بأي شكل من الأشكال.. تُرى ما مذاق تضحيتك التي تذهب هباء؟ بل هذا الشعور بالذنب الذي يتملكك تجاه من أردت حمايتهم فحرمتهم المناعة. معادلات تختل مع تصاعد النداءات بفك الحجر لإنقاذ الاقتصاد. والسؤال هنا: هل سيصاب البشر بالسعار لتعويض الخسائر وبالتالي التعجيل بدمار الأرض؟