في حالات الذعر الجمعي، غالباً ما يتوحد سلوك المجتمع، وتنتشر العادات بين الناس مثل انتشار العدوى، وتكون لدى المجتمع القابلية العالية للاستماع إلى النصح والتوجيه، ومن ثم يهيمن انتشار "عدوى السلوك الجمعي" على عدوى الوباء العشوائي، وبالتالي فإن الهدف من قرار كثير من دول العالم بحظر التجول والدعوة للحجر المنزلي هو محاصرة الفيروس اجتماعياً والحد من وصوله لمرحلة الإصابة والتدخل الطبي، وذلك لأنه يزيد انتقاله وانتشاره عبر التقارب الجسدي للناس والتهاون في النظافة الشخصية، فيكون الحل في إعادة ترتيب بعض القيم الاجتماعية. وإذا حاولنا الاستفادة من التجارب التاريخية المحلية والعربية والإسلامية، واستدعينا قصة طاعون عمواس الشهير الذي وقع في الشام، وفتك بكثيرٍ من أهلها، العام 17ه، سوف نجد أن الحل الجذري جاء في حظر التجول والتباعد الجسدي الذي فرضه عمرو بن العاص، عندما خطب قائلاً: "أيها الناس! إن هذا الوجع إذا وقع إنما يشتعل اشتعال النار، فتجنبوا منه في الجبال". فخرج وخرج الناس، فتفرقوا حتى رفعه الله تعالى عنهم. وما يزال التاريخ يعيد نفسه في كثير من جوانب الحياة، وما تزال بعض الحلول التقليدية هي الأنسب للوقاية. وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن وباء الطاعون، المرشد لإغلاق الحدود ومنع التنقل بين البلدان للحد من الأوبئة التي تنتشر عبر التفاعل الاجتماعي: "إذا سمعتم به بأرض، فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها، فلا تخرجوا فراراً منه". وهذه الحلول البسيطة، التي عرفها الإنسان القديم، وما تزال فاعلة حتى الآن، تؤكد أن بعض الأوبئة إنما تحل من خلال إعادة ترتيب القيم الاجتماعية، وتقنين التفاعل الاجتماعي وإغلاق الحدود، فهي الخط الأمامي للوقاية وللعلاج. وقد اتخذت المملكة منذ بداية انتشار الوباء سلسلة إجراءات استباقية ومتتابعة بناء على مؤشرات انتشار الوباء في مناطق المملكة، حيث بدأت بإغلاق حدود المملكة وإيقاف حركة الطيران، ثم صدر قرار حظر التجول، ثم حظر الدخول أو الخروج من عدد من المدن والمحافظات، ثم حظر أحياء معينة داخل المدن، ثم تمديد ساعات الحظر. وكل هذه الإجراءات تهدف إلى تضييق الحصار على فيروس كورونا للحد من انتشاره؛ مما يؤكد على أن علاجه الاستراتيجي الحاسم يتركز في إدارة الشبكات الاجتماعية من خلال تغيير منظومة من القيم المتمثلة في عادات الإنسان في نظام السلام ومسافة التقارب وأماكن الصلاة وحدود تنقلاته، وحماية الفم واليدين المستمرة بالكمامات والقفازات وتأجيل جميع المناسبات الاجتماعية الموسمية. وقد أعادت الإجراءات ترتيب الحياة اليومية للإنسان العادي، وغرست لديه ممارسات صحية واجتماعية كانت مخفية في زحام المشاغل اليومية، أو مؤجلة ولم يحن الوقت لممارستها. الدرس الاجتماعي الأهم يكمن في عدم الوثوق بالحياة اليومية، وعدم الاتكال على ازدهار الحضارة وتيسر الصناعات وتفوق وسائل التقنية في الاتصال والتواصل، فهذا الوباء ليس الكارثة الأولى التي تواجه البشرية، ولن تكون الأخيرة، وما يزال الفكر البشري يتحدث عن كوارث محتملة نتيجة التطور المذهل في الصناعات البيولوجية والغذائية والنووية. لقد آن الأوان للأسرة أن تراجع نظام الاستهلاك والادخار والسكن والتأمين، وأن تعزز علاقاتها بأفرادها، وأن تراجع منظومة القيم الاجتماعية والاقتصادية بناء على ما يحقق مصالحها، فتعلم الدروس الاجتماعية والاقتصادية من الأزمات خير وسيلة للإفادة من التجربة التي تعرضنا لها بسببها.