بعد ست عشرة سنة من غربته عن أحبته، تمكن (صابر) بفضل الله من ادخار مبلغ بسيط من المال، وكان وزوجه يحلمان بامتلاك بيت خاص بهما وأبنائهما، وفي يقينه أن البيت الحلم ليس عمارة كبيرة أو فيلا فخمة، إنما أحد بيوتات القرميد التي منحتها "وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين" للنازحين من أراضيهم التي اغتصبها الصهاينة عام 1948م، وتحديدًا أحد بيوتات المخيم الذي نشأ فيه. وفور عودته لقضاء إجازته السنوية بين الأهل والأحبة، شرع (صابر) بمساعدة أصدقائه في البحث عن البيت المنشود، وبعد أسبوعين من البحث المتواصل اتضح أن المبلغ المدخر ليس كافيًا، فارتأى أن يحفظ المبلغ في شراء قطعة أرض، بحيث يبيعها في الوقت الذي يجد فيه البيت المناسب، وبالفعل اشترى (صابر) قطعة أرض بمساحة معقولة تقدر بنحو 375م2. وفي إجازة السنة التالية، كانت فرحة (صابر) كبيرة؛ إذ ارتفعت أسعار الأراضي إلى الضعف، فعاود وأصدقاؤه البحث عن البيت المأمول، حتى وجد بيتًا معقولًا، فيه أربع غرف، ومطبخ، ودورتا مياه، وحوش معقول، وصادف أن هذا البيت قريب جدًا من والدته، وقريب أيضًا من بيت (مخلص)؛ أحد الأصدقاء الأعزاء الذين شاركوه رحلة البحث، فذهبا معًا إلى صاحب البيت، واتفقا معه على كل شيء، لكن صاحب البيت طلب مهلة بعض الوقت ليُقنع أخاه ببيع البيت؛ إذ ورثاه معًا عن أبيهما. حان موعد عودة (صابر) لغربته دون أن يصل الوريثان إلى قرار، فاتفق مع صديقه (مخلص) أن يبيع قطعة الأرض، ويتمم عملية شراء البيت فور اتفاقهما على البيع، وأعطاه صك ملكية الأرض (الطابو)، وكتب له تفويضًا بذلك، ثم غادر وزوجه وأبناؤه إلى غربته، حاملين معهم دموعهم وآهاتهم، فهم مقبلون على سنة جديدة من الغربة لا مجال فيها لرؤية محبيهم أو أي نوع من أنواع التواصل معهم؛ فالتواصل مع فلسطينالمحتلة آنذاك لم يكن متاحًا، وتقنية اليوم لم تكن موجودة، وحتى الرسائل الورقية، وهي الوسيلة الوحيدة للتواصل، كانت تستغرق شهرًا على الأقل في كل اتجاه. بعد نحو شهرين أو يزيد تلقى (صابر) أول رسالة من الأهل؛ ووصول رسالة من الأهل بمنزلة هدية عظمى يجدد معها أنفاسه، ويستمد منها صبره على عذابات البعد. فتح (صابر) الرسالة متعطشًا لما ستحمله من أخبار، لكنه صعق بخبر يتصل بصديقه (مخلص) الذي أطلق رصاصة الغدر نحو ظهره؛ إذ بالفعل تمم عملية الشراء، لكنه تممها لنفسه. تلك الرصاصة لم تقتل (صابر)، لكنها أصابته فأحدثت فيه جرحًا عميقًا استمر نزيفه أربع سنوات قاسيات، لم يهنأ له فيهن نوم، ولم يهدأ له بال، حتى هلّ عليه كرم الله سبحانه وتعالى، ففتح عليه بابًا واسعًا من الرزق، تمكن خلاله من تصميم البيت الذي يريد، والشروع في تشييده على قطعة الأرض التي لم يبعها (مخلص). لقد كره (صابر) فِعلة (مخلص) كرهًا عظيمًا في حينها، لكنه فيما بعد ابتسم لقول الله سبحانه وتعالى "وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم ..."، فرفع كفَّيه شكرًا لله إذ منّ عليه بالخير العميم؛ أولًا: اكتشف معدن (مخلص) وهذه نعمة عظمى، وثانيًا: أبدله الله ذلك البيت ببيت لم يكن يحلم به. * عضو اتحاد الكتاب والأدباء الأردنيين