رواية أخفُّ من الهواء، للكاتب فيديريكو جانمير، بترجمة محمد الفولي، رواية مبتكرة ذات المكان الواحد والسارد الواحد والأحداث المتنوعة، لكن المزج بينها جاء بسلاسة مثيرة ومبهرة، تتحدث (ليتا) امرأة في الثالثة والتسعين من عمرها عن الوحدة التي ترافقها كل يوم وطيلة أيام حياتها، وعن الحدث الوحيد المهم في حياتها، وهو امتلاك أمها لحُلم، ودفاعها عن هذا الحلم رغم موته منذ ما يقارب القرن، وهذا مما يجعلك تقرأ بلهفة لمعرفة ما حدث مع والدتها، وتشعر بالانزعاج عندما يقاطعها «سانتي» فتى في الرابعة عشرة المحتجز في الحمام، ثم تسهب بحديثها عن حياتها الشخصية، ونصائحها التي تلقيها على سجينها، بطريقة بطيئة وساذجة ولكنها ساحرة تبعث على التبسم كثيراً، كما تحس بأنك محبوس معهما بهذه المتعة في النص والأسلوب، الحوار الذي اكتفى بصوت الراوية «ليتا» وترك للقارئ تخيل صوت الآخر وهو يبادلها الحديث. استطاع الكاتب أن يجعل القارئ متشوقًا لمواصلة القراءة ومتابعة تفاصيل الحكاية، وذلك من خلال عدد من التقنيات الذكية والبسيطة التي اعتمد عليها في كتابته، فمن ذلك انتقال السرد بين الماضي والحاضر، فتلك التقاطعات الزمنية المتتالية تمنح السرد حيوية من نوع خاص، بالإضافة إلى تغيير نبرة الخطاب التي تتحدث بها الراوية (ليتا) ما بين لهجة الاستعطاف، إلى لهجة الأمر والصوت القوي العالي، إلى لهجة الوصف المجرد للمواقف والحكايات والتي تميل إلى الضعف والاستسلام، كما عرض فيها بصورة واضحة إحساس كبار السن بالوحدة، وعدم وجود من يؤنسهم، مما ينتج عن ذلك سوء حالتهم النفسية، وانعدام رغبتهم في الاستمرار بالحياة، إلا أنه في حالة وجود قليل من الاهتمام، ومن يبادلهم أطراف الحديث، ترتفع حالتهم النفسية لعنان السماء. حتى نهايتها الدرامية والقارئ متشكك في صدق ما يحدث، هل حدث؟ أم هو تخيل وهذيان عجوز الرابعة والتسعين، أما أنها أرادت اختراع شبح يسير معها نحو الموت، لا شك أن الكاتب تعمد ترك ذلك للقارئ ليختم به الحكاية كما يشاء أو كما يتخيل. تجدر الإشارة إلى أن الرواية جاءت في ترجمة رشيقة وحية جدًا قدمها محمد الفولي، الذي استطاع بمهارة أن ينقل روح العمل بكل تفاصيله ليبدو وكأنه مكتوب باللغة العربية، وهو بهذه الترجمة يقدم للعربية كاتباً مهماً ومميزًا. حصلت رواية «أخف من الهواء» على جائزة كلارين للرواية العام 2009، وهي أول الأعمال التي تنقل للعربية للروائي الأرجنتيني «فيدريكو جانمير» صادرة عن دار مسعى. مقتطفات من الرواية: * ما الغاية من الخيال إن لم تكن ملء الفراغات الموجودة في الحكايات؟ * حكاية ما سأقصها عليك وأرغب بشدة في البوح بها. أرجوك تأدب واصمت. اهدأ، توقف عن الضرب على الباب كأبله وأنصت بهدوء. لن يضرك أن تنصت. الأفضل لك أن تفعل. أنا أعرف ما أقوله. كبار السن هم نبع المعرفة. * كان الرجل قد حصل ما أراده لكيلا يبقى لديك أي شك، لهذا قالت له أمي بمجرد خروجها من السيارة: «رغبة المرأة أخف من هذا الهواء». وكان رده على تلك الكلمات التي لم يفهم عمقها، أن رسم تلك الإيماءة الحمقاء على وجهه مرة أخرى.