تحتل الرواية التي تكتبها المرأة السورية في السنوات الأخيرة مكاناً متقدماً بين ما يكتبه الروائيون السوريون، وفي هذه الملاحظة جزئية مهمة جديرة بالمناقشة، من حيث أن هذه الروايات التي تقدمها كل من روزا ياسين حسن، وسمر يزبك، وعبير إسبر، على وجه الخصوص، لا تدخل تحت علامة «الأدب النسوي»، والمصطلح جاء أصلاً من غلق بعض الكاتبات رواياتهن وقصائدهن على أحاسيس المرأة الداخلية، فأغرقن في التفاصيل الذاتية التي لم تمس متابعي الأدب بشرائحهم الواسعة، من حيث القدرة على الفهم والتذوق، والاستعداد لتكوين رأي نقدي. على كل حال، المصطلح لا يقتصر على القول إن هذه رواية نسوية لأن امرأة ما كتبتها، وإنما هي نسوية لإغراقها في الولوج إلى العوالم الداخلية للمرأة في مجتمعات عربية متخلفة عموماً. إذن، فهنالك رواية تكتبها المرأة، وغير مشمولة بمصطلح الأدب النسوي، ومثالنا، هنا، رواية «حراس الهواء» للروائية السورية روزا ياسين حسن، التي استحقت هذا اللقب بعد بداية جيدة فيها شيء من نقص الخبرة في «أبنوس» عام 2004م، ثم تدربت بعدها على الأسلوب العلمي في الرواية التوثيقية «نيغاتيف»، عام 2008م، التي تتحدث عن ذاكرة المعتقلات السياسيات في سورية، وعندما وصلت روزا حسن إلى العام 2009م، كانت روايتها «حراس الهواء»، التي صدرت عن دار الكوكب – رياض الريس للكتب والنشر، لتجمع بين علمية الرواية، من حيث البناء الروائي، وبين الفن، لجهة الاهتمام بالتوشيات الجميلة، والأسلوب الفني للسرد، فالحكاية التي هي عماد الرواية لا تكفي وحدها لتقديم رواية جيدة، كما أن التكثيف وحده قد يضع القارئ في صعوبات على مستوى القراءة والمتعة، ومن هنا توصلت روزا حسن إلى صيغة فنية تعطي أبطالها، من خلال الحوار والسرد، فرصة أن يقولوا ما يقتضيه البناء المنطقي للرواية، لكنها تركت لهؤلاء الأبطال أنفسهم، وللرواة متعددي المستويات، أن يقولوا ما يتشاركون فيه مع القارئ، فالتخييل لا يبتعد بالرواية عن واقعيتها التي تضع ملفات الاعتقال السياسي كخلفية لحالة عدم اليقين التي يعيشها الشباب في مواجهة مستقبل غائم، أو مسدود الأفق، وحتى بعد أن يخرج شاب، أو شابة، من المعتقل، يجد أن الأفق أكثر قتامة حتى من المعتقل نفسه، ففي السجن ينحصر تفكير المعتقل في انتظار الخروج من الأقبية المظلمة، والاجتماع بالأصدقاء والزوجة والأم والأب، أما بعد الإفراج فإن الحرمان من الحقوق المدنية، وغياب فرص العمل، والاصطدام بقيم المجتمع التي تتراجع، في زمن يتقدم، التي تزداد تخلفاً على غير المتوقع، وهنالك اختلاف الأمزجة الشخصية تحت تلك الضغوط؛ كل ذلك يجعل أفق الحياة أكثر ضيقاً، خاصة مع تقدم العمر، والدخول في مرحلة ما بعد الشباب. وفي هذه الرواية، ربما تعدّ الروائية روزا ياسين حسن، وهي المهندسة المعمارية، أول كاتبة تفك حجب الصمت، وتتجرأ على طائفتها، ولا غرابة في ذلك كونها نشأت في بيت أبيها المفكر اليساري «بوعلي ياسين»، حيث تباشر الأفكار الباطنية الخاصة بالطائفة العلوية الكريمة في سورية، وتسرد وقائع اكتشاف والد بطلة الرواية «عناة» أن زوجته الأولى المتوفاة سنية قد ظهرت في إسبانيا، حيث وُلدت إيزابيل، الإسبانية من أصول عربية، في اليوم الذي ماتت فيه زوجته «سنية» في حادث سير وهي عائدة من الرقة إلى اللاذقية. ويتضح من طريقة عرض الكاتبة لهذا المعتقد، وتهكم بطلة الرواية «عنات» على طريقة إيمان والدها بذلك، أن الهدف فني في الدرجة الأولى، فليست مشكلة أن يعتقد حسن بذلك أو لا يعتقد، وفي الدرجة الثانية هو نوع من تعريف بالعقائد والأفكار التي يعتقد بها المواطن «الآخر»، حتى لا يكون هذا الآخر موضوعاً للتفسير والتأويل الغامض حين يكون منغلقاً أمام مواطنه من الطوائف الأخرى، واعترافاً بالتعددية الثقافية في وطن متعدد المذاهب والأعراق. الرواية جريئة في كثير من أحداثها، إذ تفك الحجب عن التشوه النفسي الذي يدخل فيه المعتقل، فعندما يتم الإفراج عنه يحمل عقدة ما تطبَّع بها في السجن، مثل الخوف من المجتمع، والخوف من المستقبل، والخوف من العودة إلى المعتقل، والخوف من إنجاب طفل في هذا الجو من الخوف، بعدما قضى داخل المعتقل مدة تصل إلى عشر، أو عشرين، وحتى ثلاثين سنة وأكثر. وهنا تنتقد الراوية «عناة»، أو الراوية الثالثة، هذه الحالات، ف«عناة» تعشق زميلها الكندي في السفارة الكندية «بيير»، وتبرر لنفسها ذلك، كون خطيبها «جواد» ظل في المعتقل خمس عشرة سنة، لكنها ترفض الهجرة مع بيير، «وفاء» لخطيبها، ولتبقى تفاصيل العلاقة سراً من أسرارها، أما صديقتها «مياسة»، التي انتظرت زوجها «إياد الشالاتي» حتى خروجه من المعتقل، لكنها تتفاجأ بعقد إياد التي حملها معه من المعتقل، ولذلك عافته نفسها، ودخلت في هوس التغذية الطبيعية «المايكربيوتيك». تعمم «عناة»، حين تقوم بدور الراوية، موضوعة القمع، فوظيفتها أن تترجم قصص طالبي اللجوء السياسي من دول مختلفة، حيث السفارة الكندية في دمشق ثاني أكبر سفارة في العالم، وتردها طلبات اللجوء من العراق وإيران والسودان وأفغانستان، كما تعرض الرواية، وتحاول عناة بالرغم من تعاطفها مع هؤلاء أن تقارن بين التشوه الجسماني الذي يقدم دليلاً ظاهراً، والتشوه النفسي الذي تخفى آثاره حتى على المتخصصين «يد مقطوعة، أو قطعة محروقة من جسد، كفيلة بإخراج اللاجئ على الفور من جحيمه، فيما لا نستطيع أن نحفل بروح كاملة متفحمة ومتآكلة في داخله». في تلك الحيوات المتشابكة والمتناقضة، ترى روزا ياسين حسن أن ملامسة الجراح أدعى للتعجيل بشفائها من السكوت والتأجيل. وكم من رواية سورية، لكاتب أو كاتبة، عرضت لهذه الفكرة، في استقبال للحالة التي وجد الشباب السوري نفسه في معمعانها، وكان القصد التنبيه إلى ذلك ومعالجته قبل الخوض في حمامات الدم،.. ولكن لا حياة لمن تنادي.