تنزعج فئة من عشاق التراث الشعبي من مسألة التشكيك في صحة بعض المرويات ولا سيما عندما تكون معروفة ومُستقرّة في الأذهان، أو حين ترتبط بشخصيات شعبية مشهورة أو ذات مكانة رفيعة، وأذكر - على سبيل المثال - أن هناك من أبدى غضبه واستياءه من ربطي بين قصة مشهورة تُنسب إلى الشاعر المعروف حميدان الشويعر وقصة مشابهة لها تنسب لجحا في سياق حديثي عن ظاهرة «إلباس بعض قصص ونوادر التراث العربي لباسًا شعبيًا» لتتناسب مع المتلقي الشعبي، مع أن تأثير شخصية جحا وحضورها في التراث الشعبي أمر ملحوظ يؤكد اطلاع الرواة على شيء من أخباره ونوادره، وقد أورد الشيخ محمد بن ناصر العبودي في كتابه (الأمثال العامية في نجد) عددًا من الأمثال الشعبية التي ترتبط باسم جحا ونوادره، وذكر أن جحا عند أهل نجد «جحوان»، أحدهما لأهل البدو والآخر لأهل الحضر، وأن للثاني شخصية مختلفة عن الأول! ودائمًا ما ينتج عن تساهل بعض الرواة في نسبة النصوص المروية إلى غير أبطالها الحقيقيين أو تحريفهم لها كثير من الأخطاء، لكن المتلقي الذي لا يبحث سوى عن المتعة قد لا يفطن لها، وإن فطن لها فإنه لا يهتم كثيرًا بنقدها. ولنا في أخبار جحا نفسه عبرة، فقد أكد الأستاذ عبد الستار فراج في تحقيقه المميز لأخبار جحا على مسألة تساهل الناس في نسبة «كل نادرة فيها تحامق أو غرابة إلى جحا»، كما تساهلوا قديمًا في نسبة كل شعر فيه اسم ليلى إلى قيس بن الملوح، وكل شعر فيه مجون وخمر إلى أبي نواس، كما أورد عبد الستار نماذج عديدة من «المفارقات العجيبة» في الأخبار المنسوبة إلى جحا، من بينها ما ينسب إليه من أخبار تجعله يعيش في عصور تاريخية متباعدة، ويلتقي بشخصيات يستحيل أن يلتقي بها معًا، إضافةً إلى النوادر التي يتضح بسهولة أنها حديثة الصياغة كتلك النادرة الغريبة التي تتحدّث عن لقائه أحد اللصوص على متن قطار! وأجزم أن المتأمل سيجد ما هو أعجب من مفارقات أخبار جحا في التراث الشعبي، الذي يكثر فيه خلط الواقعي بالأسطوري، وتكثر فيه نوعية الرواة الذين لا يهتمون هل كان بطل القصة يمتطي حمارًا أم كان يركب قطارًا؟ ولا يعنون بحقائق التاريخ مع أنهم يغضبون إذا عوملت مروياتهم معاملة الأساطير والخرافات، فالمهم فقط هو نقل الرواية بحبكتها المشوقة إلى المتلقين وكسب إعجابهم، لكن الباحث الجاد لا يعفى أبدًا من القيام بدوره في نقد المرويات الشعبية، وتنبيه القارئ إلى ما فيها من أخطاء ومبالغات أو تزييف أو تحريف.