الفساد الإداري والمالي يمثل المشترك الوحيد بين الدول العربية المختلفة على كل شيء، وبحسب منظمة الشفافية العالمية في تقريرها الأخير، فالدول الأكثر فساداً هويتها عربية، وعرب الشمال هم أصحاب المعاناة الأكبر، وقد وثقت إحصاءات البنك الدولي، خسارة الدول النامية لمئة مليار دولار كل سنة بسبب الفساد، والجرائم المرتبطة بالفساد كالرشوة واستغلال النفوذ الوظيفي، تدخل في فئة الجرائم ذات الطبيعة الخاصة، لأن المتورطين، في معظمها، من ذوي الياقات البيضاء، والتعامل معهم يحتاج لأنياب ومخالب، ولعل المملكة تمثل استثناءً عربياً في هذه المسألة، فقد ساهمت الإصلاحات التي قادها سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، وقامت بها الدولة منذ 2017، في تحجيم ظاهرة الفساد، بعد أن كانت من بين الممارسات المألوفة، وأعادت لخزينة الدولة مئة وستة مليارات دولار. تهيئة بيئة آمنة للاستثمار الأجنبي والمحلي لا يمكن أن تتحقق مع الفساد، وقبل ديسمبر 2019، كانت مكافحة الفساد موكلة لثلاثة أجهزة تعمل في جزر معزولة عن بعضها، حتى صدرت الأوامر الملكية بدمجها في جهاز واحد هو هيئة الرقابة ومكافحة الفساد، والهيئة الجديدة تمثل تطويراً لعمل هيئة مكافحة الفساد، الذي كان محصوراً في مراقبة وتتبع حالات الفساد واستقبال بلاغاتها، ومن الإجراءات الناعمة في التعامل مع الفساد حساب إبراء الذمة، وطريقته في استعادة الأموال بسرية واعتماداً على تأنيب الضمير، والتي لم تتجاوز 375 مليون ريال طوال 13 سنة، وفيها إشارة لحجم الفساد قبل إصلاحات 2030، والهيئة في شكلها الجديد تمارس صلاحياتها وصلاحيات المباحث الإدارية وهيئة الرقابة والتحقيق، وتقوم بأعمال الرقابة والضبط والتحقيق والمرافعة معاً. ترتيب المملكة في مؤشر مدركات الفساد (2019) جاء متقدماً على 129 دولة من أصل 180، وفي الترتيب العاشر بين دول مجموعة العشرين، وتقدم 7 مراكز مقارنة بسنة 2018، و12 مركزاً مقارنة بسنة 2017، وما حدث لم يكن ليحدث لولا إصلاحات الرؤية واستعادة أموال الدولة، ويوجد أمر سامٍ كريم يكفل حماية لمن يبلغ عن جرائم فساد حكومي، فلا يجوز اتخاذ إجراءات تأديبية بحقه، ولا يطلع على معلوماته إلا الشخص المختص وفي حدود عمله، وفي الفترة القادمة، ستقوم (نزاهة) بنشر بيانات المفسدين تكريساً لمبدأ الشفافية. طبيعة الفساد ليست ثابتة وهو من الجرائم المرنة والمتطورة، إن جاز التعبير، ويجوز أن نلحق بالفساد تأخر مشروعات الدولة وتعثرها، بالإضافة لممارسات من نوع تعيين المئات على بند الأجور من دون إعلان، والحالة الأخيرة منتشرة في إدارات التعليم أكثر من غيرها، وتخصيص الوظائف لأشخاص أو تفصيلها عليهم، وبما يتناسب مع مزاج المسؤول ورغبته، ومن دون النظر إلى الكفاءة والقدرة، وأعتفد أن الحال المتردية في اليمن ولبنان وإيران سببها الفساد الإداري والمالي، وأنها تمثل نتيجة طبيعية للمحاباة ووضع الشخص الأقل كفاءة في مواقع مهمة وحساسة، وفي رأيي، المؤسسة التي لا تؤمن بالعمل المؤسسي الجماعي تعد مؤسسة فاشلة وفاسدة إدارياً. جرائم الفساد متعدية ولا تؤثر على الوظيفة العامة وحدها، وتأثيراتها قد تمتد إلى اقتصاد الدولة ومجتمعها وسياستها، فالفساد الإداري، على سبيل المثال، يصنع بيئة طاردة وقاتلة للكفاءات الوطنية، وفيه تلاعب بالوظائف الحكومية، وتعطيل لعجلة التنمية، وللرؤية التي تعمل عليها المملكة، ومكافحة الفساد واجب وطني وقضية يتحمل مسؤوليتها كل سعودي، لأنها تستهدف حاضره ومستقبل أبنائه.