"الدنيا ريشة في هوا، طايرة من غير جناحين"، والأصعب من ذلك هو إدارة هذه الدنيا على المستوى الشخصي. فنحن لا نتذكر أن وجودنا في الدنيا محدود ومؤقت إلا في الأزمات الكبيرة وربما عندما نبلغ الكبر، وهذا أمر غير محسوم لأن كثيراً من كبار السن يرون أن أمامهم متسع من الوقت.. لا أعلم لماذا تذكرت أغنية سعد عبدالوهاب "الدنيا ريشة في هوا" وأنا أتابع أحداث وباء "كورونا" الذي هز أحد أهم الإمبراطوريات الاقتصادية والسكانية والعسكرية المعاصرة. هذه الأغنية كانت دائماً حاضرة في ذهني "رومانسيا" رغم أنها تستهين بالدنيا، وتقلل من شأنها وتقول بصراحة: إن الأحوال لا تدوم. كيف يمكن أن تتداعى الأمم وكيف يمكن أن تسقط القوى أمام جبروت الخالق، يقول الله تعالى: " وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا" (آل عمران: 140). هذه الحقيقة الماثلة أمام عيوننا أن هذا العلو في الدنيا يحتاج إلى علو روحي وإيماني يوازن الإحساس بالقوة المطلقة التي كان يشعر بها فرعون عندما قال لقومه لا أريكم إلا ما أرى ولا أهديكم إلا سبيل الرشاد، ولم يدرك أنه مجرد كائن فان إلا بعد فوات الأوان. مجرد "فيروس" لا يرى حاصر إمبراطورية كانت ترى نفسها تتقدم جميع الأمم وتتركهم خلفها. الدنيا تغري الإنسان بعذوبتها وتنسيه حقيقة أن لكل شيء نهاية، والأهم من ذلك تنسيه أن هناك سنناً كونية لن تسمح له مهما أوتي من قوة أن يستمر قوياً وثرياً. الموت مثل الحياة يصنع التجديد ويداول القوة والثراء بين الناس ويعلمهم أنه لا قوة دائمة ولا ضعف دائماً. رغم أن "الموت" يعني النهاية عند البعض، ويحمل صورة تراجيدية عميقة في الأذهان إلا أنه السبب في التجدد والنمو وتطور الأفكار. الخلود بمفهومنا الدنيوي يعني "السكون" واستمرار الأفكار كما هي، ولكن شاءت حكمة الله أن يكون التجدد والتطور الإنساني عن طريق أكثر الحقائق الإنسانية ألماً. لذلك فإنني أرى ما يحدث الآن في الصين هو درس إنساني مفتوح يذكرنا بالضعف الإنساني الأزلي، وفي نفس الوقت يشير إلى القوة الكامنة في جنسنا البشري التي تشير إلى التجدد والاستمرار والتطور. الدرس العميق الذي نعيشه هذه الأيام، وهو درس من دون شك أربك العالم، وربما جعل بعض القوى العظمى تعيد حسابها، أن الضعف والفناء يعيشان داخل الإنسان نفسه، وأنه ذهنياً وجسدياً خلق ليكون مكمناً للفناء. وباء "كورونا" ليس آخر المطاف لكنه يبين هشاشة وجودنا، فنحن مهما بلغنا من تطور وقوة يسهل فناؤنا. لا أريد أن أصور الحالة تراجيدياً، لكنه واقع أليم لا يعيه الإنسان إلا بعد فوات الأوان والغريب أنه واقع واضح جداً لكن لا يتعلم منه الناس إلا نادرًا. كل منا يشعر أنه سيخلد في الحياة، وهو في فورة القوة والشباب لكنه سرعان ما يكتشف أنه كان مخطئاً عندما يعيش خريف العمر. بين القوة والضعف والفناء يكمن غرور الإنسان وتواضعه. فعلاً "الدنيا ريشة في هوا، طايرة من غير جناحين"، والأصعب من ذلك هو إدارة هذه الدنيا على المستوى الشخصي. فنحن لا نتذكر أن وجودنا في الدنيا محدود ومؤقت إلا في الأزمات الكبيرة وربما عندما نبلغ الكبر، وهذا أمر غير محسوم لأن كثيراً من كبار السن يرون أن أمامهم متسع من الوقت. قد يقول البعض: ماذا تريد على وجه التحديد أن يعيش الناس ثقافة الفناء؟ وأن يعطوا الحياة ظهورهم؟ بينما في الحقيقة الحياة ثمينة وأن ما يزيدها قيمة هي حقيقة الموت التي يفترض أن تجعل كل منا يستثمر كل لحظة يعيشها قد لا يدرك التي بعدها. كما أن وباء "كورنا" يقول لنا: إن كل شيء قابل للتبدل، يقول لنا كذلك: إن "قوة اللحظة" التي نعيشها لا يمكن تعويضها، فإما أن نستثمرها أو نخسرها. وأن كل لحظة نكون فيها في هذا الوجود هي لحظة نادرة لا تتكرر، ولا يمكن أن نعوضها أو نستردها، وقد لا تتاح لنا الفرصة أن نعيش لحظة شبيهة لها. قوة اللحظة هي وجودنا الحقيقي وهي التي تعبّر فعلاً عن استيعابنا للعالم والوجود الإنساني برمته. والأزمات الكبيرة هي جزء من لحظة الوجود التي قد لا نكون بعدها لكنها لحظة قوية طالما أننا على قيد الحياة.