ان بلوغ الحكمة وتذوق حقائق الجمال والخير في كل ما هو موجود هما المقدمة المؤسسة لجبروت المرجعية الاخلاقية في رؤية كل ما هو عرضة للزوال والفناء. انهما يكشفان عن ضرورة الوحدة القائمة في المتناقضات، وانه لا معنى للفناء من دون البقاء، والموت من دون الحياة. والعكس هو الصحيح. ويكشفان بالقدر نفسه عن ان اشكالية الحياة والموت هي اشكالية الرؤية لا غير. أما الرؤية فإنها الحصيلة المتراكمة في دروب الثقافة ومكونات وعيها الذاتي. واذا كانت الثقافة الاسلامية أعطت لهذه الاشكالية معناها الخاص في فكرة "السنّة الإلهية في الوجود"، فلأنها نسجت من خيوطها المتشابكة لباسها الخاص، وكسَت جسدها التاريخي بألوان ذوقها الثقافي. اذا لم تكن "سنّة الله في الوجود" سوى الصيغة المجردة لتحقيق المرجعيات الاخلاقية بمعايير الوحدانية المتسامية، فالسنّة الإلهية ما هي في الواقع سوى سنّة الرؤية الاسلامية. وهذه بدورها ليست الا التجريدة الثقافية لتجاربها التاريخية. بمعنى اختزالها رؤية ما هو "معقول ومقبول" في استجابته لذوقها الخاص، في نماذجها المثلى، ما جعل منها مصدر التحقيق الممكن والمعيار الدائم لقديمها وجديدها في كل شيء بما في ذلك في تنوع نظراتها عما هو اكثر ثباتاً ويقيناً كالموت. فقد كان مضمون النظرة الاسلامية الأولى عن الحياة والموت بسيطاً في ظاهره عميقاً في محتواه، بفعل تطابقه مع مبادئها الكبرى. أي كل ما اختزلته العبارة القرآنية القائلة بأن كل نفس ذائقة الموت، وكل ما وسّعته في الوقت نفسه في فكرتها عن فناء كل ما هو موجود وبقاء وجه الله. وبهذا تكون قد ربطت الحياة بالموت، والفناء بالبقاء، باعتبارها المكونات الملازمة للوجود والعدم، ومرجعها النهائي في الله. وأعطت الثقافة الاسلامية في مجرى تطورها لحيثيات ارتباط الوجود والعدم، والبداية والنهاية بالله أبعادها المتنوعة كإقرار بديمومة المعنى، وانه لا عبث في الوجود، اذ الوجود حكمة ونعمة. وهي الفكرة التي دققتها تقاليد الكلام في صراعاتها عن وحدة الذات والصفات الإلهية. وتقاليد الصوفية عن الأسماء والأفعال الإلهية. وبرهن كلٌ برؤيته الخاصة عن ان للحياة معنى، تماماً كما ان للموت معنى. ان تحول الحياة والموت الى موضوعات تأمل الذات العارفة، وإدراجها في بناء الكيان الروحي للأمة، ما هما إلا المحاكاة الأخلاقية لتحقيق اليقين الدائر في فلك حكمتها الإلهية والانسانية. أي في عوالم ملكها وملكوتها الثقافية عن القيم المتسامية والمعاني الخالدة في ما هو عابر وعرضة للزوال. ومن هنا نظرة الغزالي عن الحياة والموت، باعتبارهما مراحل وحالات في وجود الانسان. أشار الغزالي في "ميزان العمل" الى ان تصوير الموت كما لو انه عدم محض هو نظرة الحمقى. وأكد في "الإحياء" على انه لا معنى للموت الا فقد ما في الدنيا 2. وبالتالي ليس الموت سوى تغيير حال فقط. واذا كان مظهره العام هو انقطاع الروح عن التصرف بالجسد، فلأن لكلپمنهما استمراريته، بفعل رجوع كل منهما الى مصدره الأول: الجسد لمكوناته الأرضية والروح لخالقها. وبالتالي فإن افتراق احدهما عن الآخر هو مجرد تغيير حال في الوجود وطور في اطواره. ووضع هذه المقدمة في استنتاجه القائل بأن الموت سائر في الجسد على الدوام بينما حقيقة الانسان ونفسه وروحه باقية على الدوام. والموت بهذا المعنى مجرد تغير حال يمكن فهمه، كما يقول الغزالي، بوجهين: الأول بمعنى السلب منه ما كان له من اعضاء وآلات وأهل وثروة وما شابه ذلك، اذ لا فرق بين ان تسلب هذه الأشياء من الانسان، وبين ان يسلب الانسان من هذه الأشياء. فان المؤلم هو الفراق. اما الوجه الثاني فهو انكشاف ما لم يكن مكشوفاً له في الحياة كما ينكشف للمتيقظ ما لم يكن مكشوفاً له في النوم. فالناس نيام فاذا ماتوا انتبهوا 3. وأول ما ينكشف له هو صفات نفسه الحسنة او السيئة، والتي بلورت تقاليد الاسلام اللاهوتية والأخلاقية انطباعها عنه في الحديث القائل، بأن القبر إما حفرة من حفر النار أو روضة من رياض الجنة. وليس من قبيل الصدفة ان يمثّل الموت في تآلفه الفكري احدى القضايا الجوهرية التي وجدت لنفسها الطريق الى مختلف جوانب الوجود الاجتماعي. فهي ليست بداية ونهاية كل موقف اخلاقي، بل واليقين الذي يحوي في ذاته شكوك الوجود كلها. اذ لا يقين لا شك فيه، كما تقول المتصوفة، أشبه بشك لا يقين فيه كالموت. وقد تتبع الغزالي هنا في آن واحد تقاليد الورع الاسلامي وروحية التصوف العلمي والعملي في تحديده إياه خارج مقولات الطب، استناداً الى ان الموت هو تغير حال وطور في أطوار الوجود. ووضع هذه النتيجة في تأسيسه لماهية الموت الاخلاقية. فاذا كان الموت هو الوعد الحق للجميع، والفأس التي تتحطم بها قلاع الحياة العابرة، فإنه يكشف بالقدر نفسه عن انه سجن للأشقياء. فالعاقل، كما يقول الغزالي، يعلم ان الموت يعتقه لأنه يدرك بأنه ما هو الا خطفة برق لمعت في اكناف السماء ثم عادت للاختفاء 4. وهي ذات الصيغة الشاعرية التي وضعها في فكرته عن ان الموت "ولادة ثانية يستفاد بها كمال لم يكن من قبل، بشرط ان لا يكون قد تقدم ذلك الكمال من الآفات والعوارض ما ابطل قبول المحل للكمال" 5. اي انه يعتق الموت من إسار حصره في قيود الفناء او العدم المحض ويحوله الى "ميزان" تزن به النفس ذاتها الاخلاقية. واتخذ من بعض النماذج الكبرى لعالم الاسلام امثلة يكشف من خلالها قيمة الموت الاخلاقية باعتبارها ميزاناً للحياة في رؤية مقادير أعمالها. وأراد من وراء ذلك القول ان الموقف من الموت يكشف عن حقيقة الانسان وقدر اعماله ككل في لحظة واحدة، ولهذا أفرد في رؤيته الاخلاقية الى الموت اجتهاداته عن "سوء الخاتمة" باعتبارها اللحظة التي تكشف عن سر وجوده الحقيقي. ذلك يعني ان سوء الخاتمة يكشف عن مستوى علاقة الباطن بالظاهر، ويبرهن في الوقت نفسه على انه لا وحدة حقة في الاخلاق إلا تلك التي تضع دوماً نفسها على محك المبادئ المطلقة. ولهذا قالت الصوفية "طوبى لمن إذا مات ماتت ذنوبه معه"! ومن هنا مطالبة الغزالي ربط الباطن والظاهر في الاستعداد الدائم للموت في كل من اليقظة والمنام. فالمرء يموت على ما عاش عليه ويحشر على ما عليه. والموت والبعث حالتان من احواله، كما ان النوم واليقظة حالتان من احواله مما حدد بدوره قيمة الاستعداد الدائم للموت في العلائق جميعاً من اكل وشرب وما الى ذلك، وإلا فإنه لا فرق بين ادخال الطعام في البطن واخراجه، لأنهما ضرورتان في الجبلة. واذا كانت همّة المرء ما يدخل في بطنه فقيمته ما يخرج منها. ومن هنا قيمة المراقبة الذاتية التي حصر الغزالي صيغتها العامة بأن يكون الانسان بمنزلة من استوحشته السباع، فهو لا يأمن في ليل ولا يفرح في نهار. وليس ذلك بتقدير الأمر، بل بتحقيقه في البصيرة الباطنة، اذ ينكشف له عن امتلاء نفسه بالسباع الضواري من قوى الغضب والحسد والعجب والكبرياء والنميمة وافتراسها الدائم له من دون وعي منه، اي كل ما يحجبه عن رؤية حقيقة الحياة وما يكشفه له الموت في لحظة واحدة 6. وشكلت هذه الآراء مقدمة ما يمكن دعوته بفلسفة الموقف من الموت، بالاستعداد الدائم له والذكر به وربطه بمستوى اليقين. وبما ان درجات معاني اليقين في القوة والضعف لا تتناهى، وتفاوت الناس في الاستعداد بحسب تفاوت اليقين بهذه المعاني، من هنا لا تناهي تفاوتهم في المواقف من الموت 7. وبما ان الموت هو المصير المحتوم للجميع، فمن الاولى ان يكون ذكر المرء واستعداده له وتدبيره فيه والاهتمام به والتربص له في المقام الأول. بل من الضروري، حسب رأي الغزالي، ان يعد نفسه من الموتى ويراها في اصحاب القبور، انطلاقاً من ان كل ما هو آت قريب، والبعيد ما هو ليس بآت 8. ولم يكن ذلك تنظيراً لقيمة الموت المستقلة، اذ لا قيمة للموت بحد ذاته. ففي نهاية الأمر ما هو إلا طور في اطوار الوجود، وبالتالي فإن الذكر به هو اسلوب "تمويته" الجسدي من خلال إدراجه في روح الكلمة الحية. لقد أراد الغزالي القول ان الرؤية الحقيقية الى استمرارية الوجود الانساني ما بعد الموت هي الاستمرارية الروحية لوجوده الجسدي، او الخلود المتنوع في تجلياته. وبالتالي ليس الموت - بالمعنى الدقيق للكلمة - سوى الطور الجديد للوجود الخالد. أما حقيقته فعلى قدر عالمه المعرفي - الاخلاقي. وبهذا يكون قد حاول وضع المبادئ السامية لجوهرية الرؤية الاخلاقية ومرجعيتها في عقل الذات لموتها الفردي في نظام الأطوار. اذ لا يموت في الانسان الا مظاهره، ويبقى جوهره الانساني. وبالتالي ليس عذاب القبر وسؤال منكر ونكير والثواب والعقاب، سوى الاستجواب العقلي للعقل، او الجوهر الإلهي للجوهر الانساني. فالانسان يبقى عاقلاً، كما يقول الغزالي، بعد موت الجسد، لأنه الجزء الذي لا يتجزأ المدرك اللامعلوم 9. اي انه اراد ان يضع الكل الوجودي للانسان امام احتكامه الدائم للعقل في نظام المرجعيات الاخلاقية باعتباره استجواباً أبدياً امام الذات المطلقة الإلهية والإنسانية والجماعة "الأمة وتاريخها. * باحث عراقي مقيم في موسكو. 1 - الغزالي: ميزان العمل ص 15. 2 - الغزالي: إحياء علوم الدين ج3 ص 217. 3 - الغزالي: المصدر السابق ج4 ص 494. 4 - الغزالي: ميزان العمل ص 143. 5 - الغزالي: المصدر السابق ص 145. 6 - الغزالي: إحياء علوم الدين ج4 ص 189. 7 - الغزالي: المصدر السابق ج1 ص 74. 8 - الغزالي: المصدر السابق ج4 ص 448. 9 - الغزالي: المصدر السابق ج4 ص 501.