بعد أن وصلت مبالغ «الديّات» المتعلقة بقضايا القتل الخطأ والعمد وقضايا الصلح إلى أرقام قياسية، يؤرق ارتفاعها المتزايد يوماً بعد الآخر المجتمع، ناشد عدد كبير من المهتمين وأهل الاختصاص الجهات المعنية بضرورة إيقاف تلك المزايدات والتي تحولت إلى متاجرة مكشوفة بالدم، إذ يعمد أولياء الدم إلى الصلح والتنازل لكن بمقابل دفع دية بملايين الريالات تستلزم تدخل القبيلة، وفي أحيان كثيرة تفوق الدية المطلوبة إمكاناتها فيتحول الأمر إلى مطالبات ومناشدات هنا وهناك لجمعها كاملة، والأمر الذي يدعونا إلى مناقشة هذه القضية هو أن ديّات عشرات الملايين أصبحت في ازدياد، حتى أن تكلفة دفعها تتطلب إقامة حملات إعلامية نشطة بمختلف وسائل التواصل الاجتماعي، في حين أن الجاني لا يدفع شيئاً من تلك الملايين التي ساهم بجمعها لهُ أقرباؤه بالاستعانة بكل الوسائل، ويبقى السؤال هنا كيف لهذه المشكلة أن تنتهي؟. المجتمع مطالب بعدم المساهمة في وساطات مُبالغ فيها حفظاً للأمن وسيلة تعجيز في البداية أوضح أنور الصايل –عضو المجلس المحلي بمحافظة القريات- أن المبالغة في قيمة الديّات بدأت في مجتمعاتنا كوسيلة للتعجيز في بداية الأمر؛ بسبب الإحراجات التي يتعرض لها ذوي القتيل من الجاهات العشائرية التي تتردد عليهم، وعندما لاحظ المجتمع التفاعل الكبير الذي يلاقيه جمع تلك الديّات، وإمكانية دفع تلك المبالغ انقلب الحال من أسلوب تعجيز إلى طمع وجشع مادي واستغلال.. لابد من الترغيب بالعفو في خطب الجمعة والإعلام لنشر قيم التسامح مضيفاً أن العقوبة الشرعية وضعت لحفظ النفس، ولكن استمرار هذه الظاهرة أدى إلى تهاون البعض بأرواح المسلمين، حتى أصبحنا نشاهد جرائم كثيره يستخدم فيها أنواع الأسلحة مما يدل على اللامبالاة الواضحة لدى البعض من الأجيال التي اعتادت على سماع العفو بمقابل، وأصبح لديهم شبه يقين أن قبيلته أو مجتمعه سيطالب بالعفو عنه وسداد متطلبات العفو، مشيراً إلى أن من أهم الحلول هو تقنين العفو، وفق آليات صحيحة بحيث يحدد سقف أعلى للمطالبة، وأن تقسم جرائم القتل إلى نوعين مقصود وغير مقصود، وأن ينظر بالعفو لغير المقصود ويوضع له سقف محدد، أمّا المقصود فيمنع فيه طلب غير الديّة المقررة شرعاً، بحيث إمّا يكون العفو لوجه الله ويحقق مقاصد الشريعة، أو تنفذ العقوبة لتكون رادعة للمجتمع، مقترحاً إعادة صياغة الأحكام بشأن جرائم القتل والنظر لمسبباتها بعيداً عن القاعدة الشرعية لسد الذرائع وتطبيق الأحكام وفق ما ورد في الشرع بما يحفظ النفس والعرض والمال. أرقام فلكية وقال د.صالح عبدالله العقيل -أستاذ علم اجتماع الجريمة المشارك-: إن حديث الساحة اليوم يتناول تلك القضية بجميع أبعادها المقلقة والمستغربة، ولما نراه من استغلال ومبالغات ومتاجرة بالدم لإسقاط الحق في القصاص مقابل دفع ديّات مبالغ فيها، مضيفاً أنها منتشرة انتشاراً كبيراً والمؤسف حقيقةً أن بعض الوسطاء لا يعملون من أجل الصلح نفسه، ولكن يطلبون مقابلاً مادياً كبيراً لتدخلهم في السعي للصلح أو دفع الديّة، متناولاً الأسباب التي أدت إلى هذه المبالغات، مبيناً أن أهمها الاستجابة لطلب أولياء الدم، والناس هنا معذورون؛ لأنهم يستجيبون رغبة في فك رقبة أخيهم أو ابنهم أو قريبهم، ولعل تجاوب المجتمع مع هذه الأرقام الفلكية هو الذي ساهم في ازديادها رغم أنها محددة بالشرع والنظام، مُشدداً على أهمية تدخل الجهات ذات الاختصاص لعلاجها؛ لأن ذلك عزز ثقافة الإجرام وعزز عمليات القتل -حسب قوله-، خاصةً أن الشخص لا يبالي ولا يشعر بالمسؤولية بل يتصور أنه لو قام بجريمة القتل سيجد كل من حوله متأهبين لجمع الأموال له حتى وإن كانت عشرات الملايين، ذاكراً أن ما ترتب على هذه المبالغات زيادة في معدل جريمة القتل والأخطاء والاعتداء؛ لأن الشخص يعلم أن خلفه قبيلة ستجمع له المال وبينما سيخرج هو من السجن من دون أن يدفع ريالاً واحداً. وأضاف أن المجتمع ليس ضد دفع الديّة لأولياء الدم مهما بلغ رقمها، ولكن لا يجب أن تصل إلى ما وصلت إليه اليوم من عشرين إلى خمسين مليوناً، كما أننا لسنا ضد مساعي الصلح والعفو، ولكن ينبغي أن تكون ابتغاء الأجر من الله عز وجل، ولا شك أن أجر الله عظيم وكبير جداً، كما أن من أسقط الديّة بلا مقابل فهو اعتق رقبة، وحتى لو أخذ مقابلاً ميسراً سيدخل ضمن ثقافة العفو، لافتاً إلى أن هذه الثقافة لا تأتي بين يوم وليلة، بل علينا العودة إلى الدين والتقرب والتذكير أن الله خير من يعطي ويجزي. حسابات بنكية وذكر د.عبدالعزيز بن عبدالرحمن الشبرمي -محامٍ ومستشار قانوني– أن هناك أسباباً متعددة تساهم وبشكل مباشر وغير مباشر للتصالح على إسقاط القصاص مقابل ديّات مبالغ فيها تصل إلى عشرات الملايين منها وجود وسطاء مرتزقة يعيشون على دماء أبناء القبائل -حسب قوله-، بحيث يسعون ظاهرياً بالصلح بين أولياء الدم وأهل الجاني، لكنهم يشترطون مبالغ مالية من قيمة الصلح الذي يتم بين الطرفين، مستغلين الظروف النفسية لذوي الجاني ورغبتهم في بقائه حياً، وعدم تنفيذ حكم القصاص عليه، وحاجة أهل الدم للمال، وقد يكون بالتفرقة بين أهل الدم ونفع أحدهم مقابل إسقاط نصيبه من القصاص، وبالتالي سقوط القصاص بالكلية، مضيفاً أن تأخر تنفيذ حكم القصاص من قبل الجهات التنفيذية يمنح الوسطاء وأهل الدم بطلب الصلح والتنازل عن القصاص الدية المبالغ فيها، وكذلك تدخل بعض رجال الأعمال وذوي الشأن في توسيط النفعيين وتقديم جزء من الديّة المبالغ فيها وتحميل الباقي على أفراد القبائل، إضافةً إلى عدم منع الجهات الأمنية من إقامة مراسم جمع الديّات المبالغ فيها، ناهيك عن تخصيص حسابات بنكية رسمية لجمع الديّات الكبيرة، والتي يفترض أن تكون لسداد ديون المعسرين ودعم المشروعات الاجتماعية ذات النفع المتعدد، في حين أن ضعف الثقافة الشعبية لمصارف المال والتبرع فيه لدى المساهمين في سداد الديّات المبالغ فيها، وذلك أنهم يتراخون في سداد ديون السجناء المعسرين المتعددين المعذورين، وينشطون في سداد الديّات المبالغ فيها للتفريج عن شخص واحد ارتكب جرماً كبيراً، وقد يكون من أرباب السوابق الجنائية. آثار سلبية وأكد د.الشبرمي على أنه ترتب على ظاهرة الصلح الجائر مقابل دفع ديّات مبالغ فيها عدة آثار سلبية على الفرد والمجتمع منها: تفشي جريمة القتل العمد لكون القتلة يسلمون من القصاص بسبب تطميع أهل الدم بالديّات المبالغ فيها، وذلك أن القتل أنفى للقتل، وتطبيق الحدود والتعزيرات لها الأثر الكبير في تقليص عدد الجرائم وانزجار الناس بسببها، إضافةً إلى تحميل أفراد القبائل والموسرين منهم للديون والالتزامات المالية الكبيرة بسبب المشاركة في سداد تلك المبالغ الجائرة، كذلك من ضمن الآثار السلبية وجود المنازعات والشقاق بين ذوي الدم بسبب استئثار الورثة الشرعيين في اقتسامها مع بقاء الغيض والحنق على الأقارب كالأخوة وأبناء العم لكونهم لم يدخلوا في اقتسام الديّة الكبيرة، وبقاء المعرة عليهم بسبب بيعهم للقصاص، مطالباً بتعجيل تنفيذ أحكام القصاص من قبل الجهات التنفيذية، ومنع الجهات الرسمية من فتح الحسابات وإقامة المخيمات لجمع الديّات وقصرها على العصبة والعاقلة فقط، والتأكيد على رجال الأعمال وأهل الحل والعقد بعدم المشاركة في المتاجرة بدماء القصاص، رعاية للمصلحة العامة للمجتمع واستقرار الأمن وردع القتلة والمجرمين، مُشدداً على أهمية الترغيب في العفو في خطب الجمعة، ووسائل الإعلام واستغلال وسائل التواصل الاجتماعي وبرامج «السوشال ميديا» لنشر قيم العفو والتسامح، وطلب الأجر من الله سبحانه، إضافةً إلى وجود جهة رسمية تعنى بقضايا الصلح الاحتسابي، والتأكيد عليها بعدم تجاوز سقف الدية الشرعية. ديّة شرعية وتحدث د.عطالله العبار -مستشار نفسي وتربوي- قائلاً: إن مجتمعنا خيّر يسارع إلى السعي للخير والإصلاح وهذا نابع من تعاليم ديننا الحنيف الذي حث على العفو والصفح والصلح، لكن في الأعوام القليلة الماضية -وللأسف- أصبح لدينا تجار دماء واختلط الحابل بالنابل وتجاوزت مبالغ الديّات الحد الشرعي والتقديرات المنطقية العقلانية، بل ووصلت إلى أرقام فلكية بسبب تجار الدماء هؤلاء، وانحسر جهد المصلحين الخيرين أمام هؤلاء، وأصبحت الديّات تجارة رائجة وأثقلت كاهل الناس بسبب المساهمة في دفع الملايين، مضيفاً أن من أهم الأسباب التي أدت إلى هذه المبالغات عدم الاحتكام لشرع الله في هذا الشأن وتجاوز حدود ما شرع، وافتتان البعض من الوسطاء بالدنيا وعدم مخافة الله في دماء المواطنين وأموالهم، وضعف الأصوات المطالبة بالرجوع إلى الحق أمام اكتساح موجة الديّات الفلكية، كذلك تفاعل الناس مع مثل هذه النداءات التي تركز على الجوانب الإنسانية وتخاطب العاطفة بمقاطع الأطفال والنساء، إضافةً إلى سهولة فتح حسابات الديّات من قبل إمارات المناطق، ولو ربطت الجهات التي تأذن بفتح الحساب بحد معقول من المال يقفل الحساب إذا اكتمل هذا المبلغ آلياً. ولفت إلى أن الحلول المثلى للحد من هذه المبالغات هو الالتزام بالديّة الشرعية التي حددها الدين الاسلامي الحنيف، وأيضاً تدخل الدولة بإلزام شيوخ القبائل ووجهاء المجتمع بعدم المساهمة في مثل هذه الوساطات التي تقر المبالغ الطائلة وتجاوز الحد المعقول، ذاكراً أنه من الحلول ربط الحسابات البنكية بالمبلغ الشرعي للديّة فقط، ولا يسمح بتلقي أكثر منه، أيضاً منع إقامة «صياوين» أو مخيمات تحث على التبرع لصالح ديّة فلان أو علاّن، إلى جانب تكثيف التوعية الإعلامية بكافة الوسائل المتاحة لتوضح حقيقة الأمر، وما قد ينطلي على بعض المواطنين بأن هناك تجاراً مستفيدون من المبالغة بطلبات الديّات -حسب قوله-. تحديد الديّات وقال طلال الشاطر –محامٍ-: إن منطلق تأصيل حق الديّة أوردته الشريعة الإسلامية ونصت عليه، وهو حق لأصحاب الدم من أهل المجني عليه، ولقد أصدرت المحكمة العليا في هيأتها العامة مبادئ في تحديد الديّات الخطأ، العمد، وشبه العمد، حسب ما جاء في القرارات الصادرة والذي نصه: «تكون ديّة الخطأ ثلاثمائة ألف ريال سعودي ودية العمد وشبهه أربعمائة ألف ريال سعودي»، مضيفاً أن دم الإنسان المسلم غير مقدر بثمن، خصوصاً في القتل العمد وشبهه، وكون الشريعة الإسلامية جاءت لحفظ الضرورات الخمس، ومنها الدين والمال والدم والعقل والعرض، فإن روح الإنسان تجمع هذه الضرورات الخمس.. وعرف القتل: إزهاق روح إنسان حي، فقد يفقد الطفل أباه والطفلة أباها والزوجة زوجها والأب ابنه والعكس صحيح، فإن القاتل مادياً قتل شخصاً واحداً ولكن معنوياً فلقد قتل آخرين، مبيناً أن تخفيف الديات سوف يفتح مجالاً أكبر للمجرمين، ويرخص من قيمة الإنسان، ويزيد من معدل ارتفاع الجريمة، ولا يجب التهاون مع هذا الفعل، وكلما غُلظت العقوبة في جرائم القتل يجد المجرم نفسه وحيداً لكون المجتمع سوف يُثقل بالديّات ويبدأ يُحارب هذا الفعل ولا يتعاطف معه، أمّا إذا خُفضت فسوف يشرع الباب أمام الأغنياء بقتل الفقراء والكثرة على الأقلية، لذلك أرى إبقاءها كما هي. لا تُساهم بديّات تصل إلى ملايين الريالات د. صالح العقيل د.عبدالعزيز الشبرمي د. عطالله العبار أنور الصايل طلال الشاطر