الخلل الذي أصاب المنظومة السياسية في إيران بمصرع سليماني مهم جداً لقراءة الواقع الإيراني الذي لم يعتد على مثل تلك الصدمات الكبرى، والتي دعت المرشد الأعلى في إيران إلى الصعود على منبر الجمعة بعد انقطاع دام ثماني سنوات.. بعد مصرع سليماني أصبحت المسافة التنافسية التي تفصل أميركا عن إيران أقرب بكثير مما كنا نتصوره، ودائماً ما كانت تصوراتنا كدول خليجية عن أنفسنا تتمثل في تواجدنا الاختياري أو الإجباري في أحيان كثيرة في تلك المنطقة التي تفصل أميركا عن خصمها اللدود إيران، ومن المؤكد أن مصرع سليماني يمكنه أن يوجه الحالة السياسية في إيران وكذلك المنطقة كلها وخاصة إذا ما رغبت إيران في تجاوز هذا المنعطف. كل ما يمكن تصوره بدقة بعد سليماني هو الابتعاد عن طرح فرضيات ذوبان النظام في إيران بشكل مفاجئ، ليس من خلال السقوط، إنما عبر تغيير السلوك، فمهما كانت الضربة قاصمة لإيران إلا أن النظام الإيراني يمكنه الالتفاف من جديد، لأن التصورات الغربية عن إيران ليست كتلك التي نحملها نحن في عالمنا الخليجي والعربي، وهنا يصبح التعمق في التحليل والتفكير السياسي مطلوبا من أجل إيجاد مقاربة فعلية لتصورات واقعية عن إيران. في دولنا ومنطقتنا نحن ندرك نظريا وببساطة فهم مصالحنا الذاتية تجاه إيران والتي تبلورت بشكل دقيق من خلال مطالباتنا إما بإسقاط النظام الإيراني أو تغيير سلوكه، ولكن الأزمة الفعلية أننا قد نعاني من الارتباك وعدم اليقين للطريقة التي تربط بين مصالحنا وأهدافنا، وخاصة أن الوضع الإيراني يعاني من تجاذبات دولية صارمة، فالغرب لديه وجهة نظر مختلفة عن تلك التي تحملها روسيا أو الصين عن إيران، وهنا يأتي السؤال المهم حول موقعنا الفعلي في الأزمة الإيرانية التي تتميز بثلاث أذرع مهمة؛ ذراع السلاح النووي، وذراع السيطرة الأيديولوجية على المنطقة، والذراع الثالثة وهي الأقسى عبر ترويض المنطقة لجلعها متواطئة سياسيا مع النموذج الإيراني. هذه الأذرع الثلاث ليست كلها تهم الغرب كما نحن، وها نحن نكتشف أن الرئيس ترمب يسعى إلى تحقيق ذات الهدف والنتيجة التي حققها سلفه أوباما بسعيه الحثيث لتوقيع اتفاقية جديدة، ومن الصعب التكهن حول الإضافات الجديدة التي يمكن للرئيس ترمب فرضها على إيران من جديد، وخاصة أن الهدف النهائي يتمثل في منع إيران جملة وتفصيلا من امتلاك سلاح نووي، وإذا كان هذا هو الهدف النهائي لأميركا والدول الأوروبية فهذا يعني أن أميركا والغرب في النهاية سوف يبددون الطموحات الإيرانية النووية بغض النظر عن طريقة هذا التبديد أو شكله، وهنا يتم طرح السؤال الأكثر صرامة حول الماهية الفعلية لموقف دول المنطقة الفعلي من سلاح إيران النووي الذي تسعى لامتلاكه؟. إيران بنموذجها القائم اعتادت على ألا يكون مشروعها وحيدا ويمكن الهجوم عليه، فالمسيرة الإيرانية خلال الأربعة عقود الماضية أطلقت تلك الأذرع عبر اعتقاد قادتها أنها في النهاية سوف تصل إلى امتلاك سلاح نووي وسيطرة أيديولوجية بمنطقة تم ترويضها سياسيا عبر أنظمة تابعة كتلك الموجودة في لبنان وحاليا العراق، الخلل الذي أصاب المنظومة السياسية في إيران بمصرع سليماني مهم جدا لقراءة الواقع الإيراني الذي لم يعتد على مثل تلك الصدمات الكبرى والتي دعت المرشد الأعلى في إيران إلى الصعود على منبر الجمعة بعد انقطاع دام ثماني سنوات. الموقف الفعلي تجاه إيران دوليا وإقليميا بعد مصرع سليماني مختلف تماما، أو هذا ما يجب أن يكون عليه من قبل دول منطقتنا، لأن تأثير مثل هذه الأحداث معقد جدا، ونتائجة قد تكون في قمة التعقل أو قمة التهور، وخروج المرشد من على منبر الجمعة في طهران يعكس تلك التعقيدات فقد خرج أمام الشعب في مهمة صعبة تتقاسمها قضية الكذب المتعمد حول الطائرة المنكوبة وقضية مصرع سليماني، وأخيرا الخوف المتنامي من الحراك الشعبي. السؤال الأخير يقول: هل بإمكاننا اليوم أن نفسر تلك التحولات في المشهد الإيراني وفق نظرية تخص منطقتنا ومصالحنا الاستراتيجية بالدرجة الأولى، مع فهم دقيق أن الأزمة الإيرانية ليست مستقلة عن الصورة الكبرى حول النظام العالمي الذي تحتدم مناقشاته بالدرجة الأولى حول منطقة الشرق الأوسط بين الغرب بقيادة أميركا أو الصين أو روسيا، فكما تغيرت السياسية الأميركية تجاه إيران في عهد ترمب فإن على دولنا أيضا أن تكشف عن سياساتها وفقا لهذ التحول، فالمنطقة مهيأة لحدوث كل الاحتمالات الإيجابية والسلبية، لأن تراكم السياسات وبلا حدود خلال العقود الماضية يبدو محفزا لتبني مواقف سياسية متسقة مع احتدام الصراع وتقارب المسافات بين إيران ومنافسيها.