التاريخ سلسلة متصلة من الدروس والعبر، والناجحون فقط هم من يستلهمون هذه الدروس من أجل فهم واقعهم وتطويره، وأعظم تلك الدروس هي التي تُتَرجَمُ على شكل مبادرات مؤسسية من خلال نماذج إدارية يعم نفعها شريحة واسعة من المستفيدين. وإذا أخذنا بعين الاعتبار حقيقة أن الفكر الإداري السعودي يعيش في ظل رؤية المملكة 2030 أبرز مرحلة تحول من العمل البيروقراطي التقليدي إلى العمل المنضبط برؤية واضحة ليحقق أهدافا محددة وفق مؤشرات أداء مقننة، فإننا أمام لحظة تأريخية تستدعي منا ليس مجرد المشاركة الفاعلة ضمن عملية التطوير تلك، وإنما محاولة توثيق هذه المرحلة الفاصلة في مسيرة العمل الإداري لدينا لتكون وثيقة للأجيال القادمة توضح كيف أدار هذا الجيل دفة التحول بكل كفاءة واقتدار. ولعل ما يقلقني في هذا الجانب هو عدم اهتمام القيادات الإدارية لدينا -عموماً- بتدوين سيرهم الإدارية، وتوضيح طبيعة المبادرات والتحديات التي واجهوها لتكون عوناً وسنداً للقيادات الإدارية الشابة وضماناً لاستمرار العمل المؤسسي، فما عدا كتاب د. غازي القصيبي – رحمه الله- الشهير «حياة في الإدارة» والذي صدر العام 2003م لا نكاد نجد سيرة ذاتية شمولية تشرح بدقة وتركيز ما تم ومالم يتم والعبر والدروس الإدارية التي خرج بها د. غازي من تجاربه المتنوعة في العمل الوزاري أو الدبلوماسي وغيرها. إنني أتفهم ألا يكون لأي إداري «تقليدي» أي منجز يرغب في تدوينه لكن مرحلة التحول هي فعلياً مرحلة حبلى بالعديد من المعالم الإدارية المهمة التي تسترعي الاهتمام برصدها وتوثيقها، والهدف من ذلك ليس من أجل «شخصنة الإنجازات» -رغم أحقية القيادات الناجحة في تخليد إنجازاتهم- ولكن لكي تكون مرجعاً لكل قيادي وموظف سواء من داخل المنظومة أو من خارجها يوضح بجلاء مسيرة الكيان في هذه الفترة، وحجم التضحيات التي بذلها فريق العمل للوصول إلى ما تحقق من نتائج، وكذلك لنسعى لعدم تكرار أخطاء الماضي ولنضمن خروج مؤسساتنا من العمل الفردي إلى العمل المؤسسي المستمر. إن هذه المهمة قد لا تقوم بها القيادات الإدارية فحسب، ولكن يمكن أن نرى كتابا متخصصين في السير الذاتية على غرار الكاتب والتر إساكسون، الذي وثق السير الذاتية للعديد من الناجحين مثل: الرئيس الأميركي فرانكلين، والعالم إينشتاين، ووزير الخارجية الأميركي السابق هنري كيسنجر، ومؤسس شركة آبل ستيف جوبز ...إلخ. و في المقابل يمكن أن يقودنا هذا لمقترح آخر وهو أن تتبنى كل جهة توثيق مسيرتها التنموية بكل إخلاص وتجرد، وأن نتحول من عقلية تقارير الأداء السنوية المرصعة بأوسمة الإنجازات وإحصائيات التفوق إلى التقارير الشمولية التي توضح أداء المنشأة وأبرز الدوافع أو العوائق التي ساعدتها لكي تصل إلى ما وصلت إليه. ولا شك أن «مأسسة عملية التوثيق» ستكون مبادرة مهمة لأي كيان يستطيع من خلالها تعزيز قيم الصدق والشفافية، وأداة مهمة لتفعيل عملية النقد الذاتي والمراجعة الداخلية الصادقة. ولعلي في هذا المقام أشيد بتجربة الشاب المميز «عمر الجريسي» في برنامجه المميز «بودكاست سقراط»، والذي سعى من خلاله للقاء القيادات التنفيذية المهتمة بالتحول في المملكة، واستطاع من خلال هذه المبادرة البسيطة إتاحة الفرصة للعديد من القيادات لتعريف المجتمع ببرامج التحول الوطني التي عملوا عليها، وأبرز التحديات التي واجهتهم وما تحقق من إنجازات أو إخفاقات، والحقيقة أن من يتابع «بودكاست سقراط» يلمس حجم الإعداد الكبير والإحصائيات والأرقام التي يدرسها معد البرناج «عمر الجريسي» لإثراء البرنامج وتأصيل مهمة التوثيق فيه. ولعلي أشير لبعض الحلقات المميزة مثل لقائه مع مدير مركز أداء، ولقائه مع رئيس البريد السعودي، ولقائه مع الوكيل المساعد للتخطيط والتطوير بوزارة العدل، وغيرها. وختاماً، إن عظمة مسيرة التحول الوطني لا تكمن فقط فيما سيتحقق -بعون الله- من نتائج وأرقام رغم أهميتها، ولكن الإنجاز الحقيقي هو كيف استطعنا الوصول إلى تلك النجاحات، ولا شك أن توثيق هذه المراحل سيكون خير درس للأجيال القادمة، سترتكز قطعاً إليه وهي تقود الوطن إلى قمم المجد والتميز.