الضحك هو وظيفة من وظائف العقل في حضور الوعي التام الذي يعمل في لحظة خاطفة على المقارنة، ولذا وجب علينا حينما نشعر بثقل الحياة وسآمة الوقت أن نبحث عن مكان الفرجة على الوقت نفسه لنضحك عليه هو وعلى تناقضات حاله في ثنايا تفاصيله.. لم تعد النفس لتحتمل ثقل الحياة وملل الروتين وسآمة الوقت! وأعتقد أن الكثير يوافقني الرأي وخاصة في تمادي تلك العقلانية من مثيرات القلق والتوتر ومطالب الحياة المورقة في مجتمعات لم تعد تقبل بالحال اليسير، تعززه تلك المآسي التي يحب أن تختفي عن المشهد العام فتشتعل العاطفة والوجدان، ونحن بطبيعة الحال شعوب وجدانية تستخدم الجد المستفيض والعقلانية وبعواطف كبيرة تضغط على النفس فتعوق الضحك، كما يقول أحد الفلاسفة: "ليس هناك عدو للضحك أكبر من الانفعال". فالضحك هو علم اقتصاد الجهد النفسي، لما له من تأثير على صحة الإنسان بشكل عام، وعلى تسرب البهجة إلى النفس، لكنه يتبادر إلى الذهن سؤال محير وهو كيف نضحك؟ وما هي وسائل الضحك ومداراته وطرائقه وأساليبه؟ وهل يمكننا أن نضحك ونحن في حالة مأزومة وسئيلة، لا تحتملها النفس البشرية في عصر الآلة والفضاء العالمي والتيه العولمي وقل ما تشاء؟! إذا ما أردنا أن نضحك فهذا ليس أمراً مستحيلاً لأن له آليات ومحركات يجب أن نهيئ أنفسنا لها، وأولها (ذلك الغياب) غياب الجد والوجدان والحس العاطفي لأن الضحك لا يعمل إلا في ساحة الهزل إذا ما تناسينا للحظات أنفسنا الجادة وانتقلنا إلى مساحات من الفرجة واللعب بحضور العقل التام الذي يشتغل على مقارنات ذهنية طفولية بدائية فطرية بحتة، تلك المقارنة الذهنية والواعية تمام الوعي بالموقف دون إيهام وتخيل هي أولى درجات آلية الضحك، فإذا ما رأينا ثوباً فضفاضاً طويلاً جراراً على جسد نحيل وقصير فإننا حينها نضحك. نحن لا نضحك على الثوب الفضفاض الطويل، وإنما نضحك على الرجل الذي يرتديه ليس شفقة بالرجل، فالشفقة والعاطفة والتخيل تغيب في حضور الضحك، كذلك لو برجل مهيب ذي هيبة ووقار يدخل في جلجلة الاحترامات والتقدير ثم نرى فأراً صغيراً يتبعه، فنحن لا نضحك على الفأر حينها وإنما نحن نضحك على ذلك التناقض بين هيبة الرجل والفأر الصغير! نضحك جراء تلك المقارنة الذهنية بين ما يجب أن يكون وبين ما هو كائن، ولذلك فالعقل حاضر هنا وبقوة ليعمل على تلك المقارنات، وذلك على العكس من المآسي التي تبكينا لأنها تعتمد على العاطفة والحس والانفعال ولا تعتمد على الحضور المقيِّد المخدِّر للوجدان، تلك المقارنة العقلية هي ما يطلق عليها في علوم المسرح (كوميديا التناقض). إذاً الضحك هو وظيفة من وظائف العقل في حضور الوعي التام الذي يعمل في لحظة خاطفة على المقارنة، ولذا وجب علينا حينما نشعر بثقل الحياة وسآمة الوقت أن نبحث عن مكان الفرجة على الوقت نفسه لنضحك عليه هو وعلى تناقضات حاله في ثنايا تفاصيله - هو صاحب الحمل الثقيل - لنقترب منه بقدر أكبر فندرك دقة تفاصيله لأن المتعة الفكرية تكمن في جراب التفاصيل التي يعمل العقل على تحسسها في لحظة ذهنية خاطفة، لا ولم نقصد هنا وإنما هي تلك الفطرية والبدائية والطفولية المستفيضة التي لا تطفو إلا وقت الهزل واللعب. يقول الفيلسوف (هنري برجسون) مثالاً عن استخدام الحس الذي يفضي إلى ثقل الحياة: ".. جربوا اللحظة، الاهتمام بكل ما يقال، وكل ما يجري، تصرفوا، بالخيال، تحسسوا مع أولئك الذين يتحسسون، وأعطوا لودكم أوسع مداه: كما لو كانت هناك عصاً سحرية سوف ترون الأشياء الأكثر خفة تتخذ وزناً ويغلف التلوين القاسي كل الأشياء". كأنه هنا يشير إلى تجنب استخدام العاطفة والحس إذا ما أردنا استخدام العقل الذي يراه يفضي إلى الضحك والبهجة فيقول في المثال المعاكس المؤدي للبهجة والمتعة: "ابتعدوا بأنفسكم، شاهدوا الحياة كمتفرج لا مبالٍ! الكثير من المآسي تتحول إلى كوميديا، يكفي أن نسد آذاننا في صالون حفلة راقصة حتى يظهر لنا الراقصون سخفاء في الحال وفي هذه الحال نجد أننا لو طبقنا هذه التجربة سنجد أن كثيراً من الأعمال البشرية تنقلب من الجد إلى الهزل"! كما أن هناك أمراً مهماً وهو أن الضحك لا يمكن أن يكون إلا جماعة، لأنه يتم في حالة يقظة الوعي،أما البكاء فيكون بالانفراد لأنه يستخدم حالة الغياب والدخول في إيهاب حالة وجدانية بحتة. كما أن الضحك معدٍ فلا يتم إلا بالجماعة، فقد نرى وضع إنسان يضحك عمداً بين الجمهور في عرض مسرحي مما يجعل الصالة كلها تضج بالضحك! كما أن ما يضحك مجتمعاً لا يضحك مجتمعاً آخر لاختلاف المخزون الذهني الذي يستخدمه العقل في لمجريات الفكاهة فتستعصي المقارنة. أذكر سيدة قاربت على التسعين عاماً أو يزيد ولا تزال بصحة جيدة لكنها لا بد أن تحصل كل يوم على فاصل من الضحك، وفي ذات يوم لم تجد ما يضحكها، فقذفت بثوب على الأرض ثم استدعت من في البيت من النساء وجعلت مكافأة كبيرة لمن ترفع الثوب، مما أحدث فيهن نوعاً من الفزع الشديد من هذا الثوب، وتناوبت النساء بين الرغبة في المكافأة وبين الخوف من الثوب اللغز، بين إقدام وهرب حتى أخذت هذه السيدة حصتها من الضحك، ثم رفعت الثوب بيدها مستهزئة بهن، هكذا يكون الضحك هو أكسير النفس، وهو علم اقتصادها، فكما أن له علماً إلا أن له وظيفة!.