في منتصف نوفمبر الجاري بث موقع ذا انترسبت بالتعاون مع النيويورك تايمز سلسلة من التسريبات الجديدة تخص الشأن الداخلي لمنطقة الشرق الأوسط والتدخلات الإيرانية في المشاهد المحلية لدول المنطقة خاصة العراق، تسريبات مرعبة، تثير الغضب والاستنكار، لكنها في الوقت ذاته تعيد الجميع لمشهد معين في شهر أبريل العام 2018، قام خلالها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بمقابلة مع مجلة ذا أتلانتيك الأميركية، وحذر من طبيعة التواجد الإيراني بالمنطقة قبل ما يكاد يصل لعام ونصف العام من التسريبات محل النقاش اليوم ووصف إيران بالتحديد كأحد محاور الشر بالمنطقة التي تسعى لزعزعة الاستقرار الإقليمي. اليوم الأمر أصبح مثبتاً بعدد من الوثائق المتداولة صحفيًا، للدلالة أولًا على بصيرة ولي العهد وفهمه التام لكيمياء تفاعلات المنطقة من جهة وثانيًا على ازدهار نمط صحفي أصبح إحدى سمات القرن ال21. يبقى السؤال عن حيثية هذه التسريبات، من نشرها، وقام على تحقيقها. خلاف طبيعة نيويورك تايمز الصحفية الشاملة والتليدة في مضمار الصحافة التقليدية وكافة قوالبها، تنتهج منصة "ذا انترسبت" نهجًا صحفيًا مغايرًا للسائد، يقوم على وضع مراكز القوى العالمية سواء أكانت سلطات وفصائل حكومية، أو شركات عالمية وكيانات ذات مدى إقليمي وعالمي، يضعها في موقف العدو المُسائل، من كافة الجوانب: مصادر تمويله، دحض سياساته المعلنة بسياساته الخفية التي لا تختص بها المؤتمرات والمراكز الإعلامية، وحتى أخلاقية ممارساته. حينما نقول إن نيويورك تايمز تختلف عن منصة "ذا انترسبت"، بالرغم من تعاونهما على نشر التسريبات الإيرانية. قد يعنينا أن نُشير أيضًا لفلسفة تدشين المنصة ذاتها، والتي من الممكن أن نستشفها من الميزانية الإجمالية التي رصدها رجل الأعمال الأميركي الإيراني بيير أوميديار كرأس مال مبدئي للمنصة وقت تدشينها في 2014، والمقدرة ب 250 مليون دولار، عن طريق مؤسسة "فيرست لوك ميديا" غير الهادفة للربح، مقابل 200 مليون دولار تدير غرفة أخبار نيويورك تايمز سنويًا بحسب تقارير. يقوم على "ذا انترسبت" فريق من أمهر صحفيي التحري والتحقيق الأميركان، تدعمهم سياسة المنصة التي تنتهج زاوية صحفية لا أقول ضيقة، وإنما معرّفة بدقة، من الممارسات الصحفية، وتحررهم من ممارسة الأعباء الصحفية اليومية الأخرى لصالحها وفي سبيل التفرغ لها، كما توضح خانة "من نحن" للمنصة في متنها "مؤسسة صحفية تختص في محاسبة ذوي النفوذ، عن طريق صحافة عدائية، لا تعرف الخوف (..) وتقدم لصحفييها الحرية التحريرية والدعم القانوني الذي يحتاجون لكشف الفساد والظلم أينما يعثرون عليه". السؤال المطروح إذن في هذه المرحلة، إلى متى تبقى صحافة التسريبات والتحليلات السياسية في الصدارة وقادرة على خطف الأنظار؟ من وجهة نظري الأمر كان وما يزال مرهوناً بتوافر تمويل كافٍ لدعم الصحافة المتخصصة، بعيدًا عن المؤسسات العريقة وصالات الأخبار التي أصبحت خبيرة في التعاون مع القارئ على تمويل ذاتها ووضع أهداف مالية وتحقيقها عن طريق نشر المحتويات المميزة وبيع الاشتراكات، فصحافة التسريبات والتحليلات والتتبع شديدة الاختلاف تستهدف جمهوراً غاية في التخصص، من جهة أخرى وجود هذا النمط من الصحافة بصرف النظر عن مدى جودتها ودقتها مرتبط طوال الوقت بظهور شخصيات على السطح كإدوارد سنودن، تتوجه للصحافة بوصفها ملجأً وقناةً للتواصل مع الجماهير وتتيح لدائرة التحقق من المعلومات الاكتمال. سؤال آخر يلفت نظري، هو متى نرى في الصحافة العربية أقساماً مهتمةً اهتمامًا واسعاً بتحليل الأخبار وتتبع المصادر والاستقصاء حقًا كمهارة أساسية للصحفي، مهارة تجعلنا قادرين على تحليل وفهم أبعاد تصريحات ولي العهد بأنفسنا، قبل أن تأتي صحيفة أجنبية بعد عام ونحوه لترفع الستار عن الكواليس؟