عشاق الفن السابع يدركون أن تكريم مهرجان القاهرة السينمائي الدولي بدورته الواحدة والأربعين، للمخرج والممثل وكاتب السيناريو البريطاني تيري جيليام بجائزة فاتن حمامة التقديرية عن مجمل أعماله، هو تكريم للسينما بوصفها حالة شغف، يتحد فيها الفن بالعقل والحس، لتصير أسلوب حياة، ومعها صارت سيرة أفلام "جيليام" سيرة لحياته. ذلك ليس بيان إعجاب برجل قضى أربعين عاماً من حياته في تشكيل عالم من السحر والغرائبية في أفلامه، فمن يعرف تيري جيليام عن قرب، ويتابعه في تفاصيل حياته اليومية، يدرك أن هذا الرجل يشبه أفلامه على نحو لا يمكن الفصل بينهما، ليس فقط في حاله جنونه الإبداعي وحسب، وإنما بخفة روحه التي لا تخفي نفسها ابتداء مما يرسمه على الورق مروراً بتعابيره النابضة بالكوميديا والحكمة في كلامه وفي ما يكتبه على صفحات "السوشيل ميديا".. في الذكرى الخمسين لتأسيس فرقة مونتي بايثون الكوميدية، يكتب على صفحته على "فيسبوك" "مونتي بايثون تبلغ من العمر 50 عاماً هذا العام! .. على الرغم من نصيحة العديد من الأطباء، معظمنا لا يزال على قيد الحياة".. ويبدو أن حالة التوحد بين "جيليام" وأفلامه انعكست على محيطه الحيوي، فتصف مقالة على موقع "vulture" بيت الرجل الذي يعيش فيه منذ العام 1985 بأنه "نوع من المساحة السحرية المزدحمة حيث يمكنك أن تتخيل شخصية من أحد أفلامه التي تعيش - أستاذ مجنون، أو ملك منفي". في كتابه "القصة" يميز روبرت مكي بين توصيف الشخصية وحقيقتها، تلك الحقيقة التي لا تظهر إلا عندما تتعرض الشخصية للضغوط.. ولعل "تيري جيليام" واحد من الفنانين القلائل الذين لا يختلف اثنان على حقيقة شخصياتهم. إنه سيزيف الهارب من الأسطورة، ليجرجر حلمه السينمائي بتجسيد قراءته لرواية سارفانتس "دون كيشوت" ثلاثين عاماً، قبل أن ينجح في يونيو من العام 2017 بإنجاز نسخته السينمائية عنها في فيلم" الرجل الذي قتل دون كيشوت The Man Who Killed Don Quixote". بالتأكيد سيرة الرجل، التي أرخها في كتابه "Gilliamesque: A Pre-posthumous Memoir"، لا تنحصر بهذا الفيلم، فقد أنجز الرجل، "مجموعة من أكثر الأفلام خصوصية وفرادة وقدرة على التأثير"، على حد تعبير بيان تكريمه الصادر عن مهرجان القاهرة السينمائي، غير أن استحقاق الرجل الحقيقي كان في قدرته الفائقة على مقاومة الحظ العاثر الذي أعاق إنتاج فيلمه "الرجل الذي قتل دون كيشوت" منذ العام 1989 حين بدأ اهتمامه بالفيلم ووضع له نصاً طموحاً، قبل أن تأخر العديد من الإصدارات وقتها إنتاجه إلى سبتمبر من العام 2000، حيث بدأ تصويره فعلياً في إسبانيا، بمشاركة "جوني ديب" و"جان روتشفورت"، ليتوقف بعدها بستة أيام، بعد أن جرفت الفيضانات السريعة معدات التصوير، وتبين صعوبة العمل في موقع التصوير القريب من قاعدة للناتو تشهد عمليات تحليق منتظمة للطائرات، ونقل نجمه "روشفورت" إلى المستشفى لإجراء عمل جراحي، واعتذر "ديب" عن مواصلة العمل وانسحب ممولو الفيلم. بعد هذا التاريخ لم يمر عام دون أن يحاول تيري جيليام إنجاز الفيلم إلى أن نجح في العام 2017 بإنجازه من بطولة جوناثان برايس وآدم درايفر، ومع الإعلان عن انتهاء تصوير الفيلم كتبت "الغارديان" تقول: " لقد انتهى تيري جيليام من فيلم "الرجل الذي قتل دون كيشوت". إنها جملة لم يكن أي شخص مطلع على هذه القصة الطويلة من صناعة الأفلام يتوقع أن يقرأها أبداً". جمهور "القاهرة السينمائي" سيكون على موعد مع هذا الفيلم الحلم ضمن برنامج تكريم جيليام في المهرجان.. وبلا شك ستكون واحدة من الأمور التي لن تغيب عن جمهور الفيلم هو البحث عما يجعل تيري يتمسك بإنتاجه طيلة 3 عقود.. إنها بالغالب روحه وقد تكومت في شريط سينمائي. تيري جيليام