أول ما تقرأ هذا البيت: لاتسأليني ليش ماجاني النوم وشلون أنام وبالحشا ألف علة!؟ ستتعاطف مع الشاعر وتتألم لحاله، وتشفق عليه. لكن انتظر حتى نهاية المقال. المؤكد أن هناك وعلى مستوى العموم بعض من يقول ما لا يفعل، سواء كان القائل كاتباً أو قاصاً أو روائياً أو حكواتياً أو غيرهم، ومن ضمنهم أيضاً الشعراء، وما أكثر من صور صورًا لم يرها وأدعى حالة لم يمر بها. وهناك من نظم قصيدة الحرب والضرب وأبيات التوجع والشكوى والسهر والحزن والمعاناة والشجاعة والكرم.. إلخ، ولكن فعله مخالف لقوله وواقعه. فبعض الشعراء -وما أكثرهم- ربما يخالفون واقعهم، يبالغون كثيراً إلى حد اللا معقول وهذه طبيعة الشعر وأسلوبه. ذلك لأن الشاعر يتفاعل مع هاجس وإحساس وشعور، فينطلق في القصيدة، يبني على ذلك ومنه الإحساس بروجاً ويشيد حصوناً تدفعه لحماسة، وقد يفخر وقد تكون قصيدته هجاء وربما مدحاً يرفع هذا ويحط من ذاك يحلق في سماء الوهم أحياناً. هذا الخيال افتراضياً مد الشاعر عبره خيوطه ينسج تفاصيله بحسب ما لديه من ثقافة وتصور وتجارب وقدرة، وأعذب الشعر ما كان جذاباً في سبكه وحبكه ومعانيه وتحليقه في عالم الخيال، وبحسب ما يملك الشاعر من مفردات تكون انطلاقته في ذلك الخيال وإعجاب المتلقي. علماً أن القصيدة هي كل ما يملكه الشاعر كوسيلة تعبير وضع فيها جهده ومقدرته واستعرض ثقافته وساحته الخيالية وما لديه من بلاغة وبيان، حتى إنه قد يصور ما لم يره في حياته كما صور بعض الشعراء البحر وهو لم يره، وآخر صور المعركة ووصفها وصفاً دقيقاً وهو أعمى. من هنا نقول: إن القصيدة رأس مال الشاعر وقطعة من شعوره. يقول الشاعر محمد بن لغفص العمري ختاماً يا رجاجيل اسمحوا لي فأنا وضّحت مما شفت حولي وكان أخطيت قوموا وضحوا لي فأنا شاعر (قصيدة رأس ماله) ولأن للقصائد والشعر من سحر البيان النصيب الكبير فقد يجعل الشاعر هذا البيان مرتكزًا يأخذ بلباب المتلقي، فيأتي الوصف المبالغ فيه لحالهم ومعاناتهم وادعاء ما لم يكن. فأغلب الشعراء يصفون حالتهم بالهزال والضعف، ومن أبياتهم نتصور أحدهم نحيل الجسم قد بلغ به التعب والإجهاد مبلغه، ولكنه في الواقع عكس ذلك، وقد يدعي السهر طول الليل عيونه في النجوم والمجرة وهو نائم. الشاعر أحمد عبد الرحمن العريفي " نديم المجرة" قال عن نفسه أنه بدأ في قصيدة يصف حالته مع الليل والأرق، وما يعقبه من سهر. وهي حالة تصاحب من يكون جل تفكيره في محبوب أو مهيوب أو هم أو ما يشغل البال. يقول الشاعر العريفي" أنه سأل زوجته: ما رأيك بمطلع القصيدة هذا: لاتسأليني ليش ماجاني النوم وشلون أنام وبالحشا ألف عله؟ فضحكت بصوت عالٍ وقالت: أنت تسابق الدجاج بالنوم. وبعد هذا الرد ألغيت مشروع القصيدة، ولكن بقي هذا البيت عالقاً بذهني وكل ماتذكرت هذا البيت تنتابني حاله من الضحك.. وفي موضوع آخر يقول الشاعر العريفي:"نديم المجرة" أنه كتب قصيدته المشهورة: قولوا لرعيان الغنم لاينامون اشوف بالمرعى مواطي ذيابة قولوا لهم خذوا الحذر لاتغفلون كم غافلٍ أصبح حلاله نهابة ويقول: أقسم بالله أني ما أعرف مواطي الذيب من مواطي الكلب. وهذا بالطبع نوع من التصوير والخيال وقدرة الشاعر في مجال التأثير من خلاله ومن استخدام أدوات ومفردات اللغة والبيان. ناصر الحميضي