من يعرف ترمب يدرك أن الصورة النمطية المعروفة عن صقور الحزب الجمهوري لاتتسق مع شخصيته، بالرغم من أنهما يتفقان على نفس الهدف، لكن يختلفان من حيث الوسيلة، فالحزب الجمهوري على مر العقود يولي الهيبة الأميركية داخل المنظومة الدولية اهتماماً بالغاً ويرى أن الوسيلة الوحيدة لتحقيق ذلك من خلال التواجد العسكري خارج حدود أميركا؛ لذلك تجد أن ميزانية وزارة الدفاع الأميركية خلال حكم الجمهوريين تحظى بنصيب الأسد من الناتج المحلي العام.! ترمب ضمن هذا المفهوم لا يخرج عن رأي صقور الحزب الجمهوري، فترمب لايكاد يخلو خطابه من التأكيد على مكانة الولاياتالمتحدة الأميركية وأهمية دورها داخل المنظومة العالمية؛ لكن لا يجب أن تكتسب هذه الهيبة من خلال لعب دور الشرطي داخل هذه المنظومة؛ الأمر الذي له آثار كارثية على المواطن الأميركي!! وكأنه بهذا يقول فاقد الشيء لايعطيه؛ لذلك يجب أن تصنع هذه الهيبة ضمن معادلة متوازنة تعي متطلبات الداخل ومسؤولية أميركا في الخارج. وقد لخص هذا المفهوم من خلال تغريدة له في تاريخ 10 من هذا الشهر (أكتوبر) قال فيها: «لقد أصبحنا قوة اقتصادية أكبر بكثير من أي وقت مضى، وسنوظف هذه القوة من أجل السلام العالمي!». من أجل تحقيق هذه المعادلة التي ترتكز على نظرية أن الاقتصاد هو ظهر السياسة، نجد أن خطابات ترمب داخل الأممالمتحدة أو حلف الناتو لاتكاد تخلو من التشديد على اقتطاع الدول الأعضاء نسبة أعلى من ناتجهم المحلي لدعم ميزانيات تلك المنظمات.! وقد قال في أول خطاب له داخل مبنى الأممالمتحدة في مدينة نيويورك: «يجب أن تدركوا بأن هذه البناية لو تم تأجيرها ستخدم المواطن الأميركي أكثر من مما تقدمه قراراتكم!!»، كذلك طالب حلف شمال الأطلسي بذات الشيء، وهدد بالانسحاب من هذا التحالف ما لم يعِ كل طرف مسؤوليته ويحقق السقف الأعلى من واجباته. من خلال هذه الإضاءات على شخصية ترمب ومواقفه، نجد أن قرار ترمب بالانسحاب من سورية يعد نتيجةً طبيعيةً خصوصاً أنه قد وعد خلال حملته الانتخابية بالخروج من مناطق الصراع التي لا تستوجب التواجد الأمريكي؛ للحفاظ على حياة الجندي الأميركي وأموال الشعب الأميركي، وكانت سورية على رأس القائمة، خصوصاً أن ترمب يرى أن الهدف من التواجد قد تحقق، وهو القضاء على «داعش»، بالإضافة إلى أن التواجد الأميركي هناك تواجد استخباراتي فقط، وعدد العناصر لاتتخطى ألفي جندي. وفي هذا السياق يقول ترمب: «إن أصعب مهمة أقوم بها هي كتابة رسالة إلى أسرة أميركية فقدت أحد أفرادها داخل صراع لا أجد مبرراً له».! في المقابل هذا الانسحاب لا يعني أن يترك حلفاء أميركا في المنطقة هدفاً سهلاً في مرمى ذوي الأطماع التوسعية؛ فالخيارات غير العسكرية مثل العقوبات الاقتصادية، كانت ومازالت من أهم الأدوات التي ترى فيها الإدارة الأميركية الحالية حلاً وسطاً لتحقيق التوازن بين التزاماتها في الداخل الأميركي وفي الخارج. اليوم العدوان التركي ضد الأقلية الكردية في شمال سورية، والتي كان لها أدوار مهمة ساهمت في القضاء على تنظيم «داعش» الإرهابي، ولاتزال درعاً أمام عودة نفوذه يعد تجاهلاً صريحاً لما حذر منه ترمب وتوعد به في حال تجاوزت تركيا بالاعتداء على الأكراد، وهو أن تصدر عقوبات يكون أثرها كارثياً على الاقتصاد والمواطن التركي، لكن المتابع للأحداث بما في ذلك الإدارة الأميركية يدرك أن ما أقدمت عليه الإدارة التركية يعد نتيجة طبيعيةً لداء النزعة التوسعية والتسلطية التى تتملك الإدارة التركية الحالية، وخطوةً أخرى على طريق الانتقام من القارة العجوز التي رفضت كل المحاولات الحثيثة من قبل الجانب التركي للدخول في الاتحاد الأوربي، بالإضافة إلى كونها انقلاباً صريحاً على اتفاقيات حلف شمال الأطلسي، هي خطوة سبقتها خطوات مماثلة، كان من أبرزها صفقة الصواريخ (S 400) التي تم شراؤها من روسيا، وهي العدو الأول والأخير لحلف الناتو الذي يفترض أن تركيا عضو فيه.!! بعد هذه الصفقة قررت الإدارة الأميركية استبعاد تركيا من برنامج (F35) الأميركية، وإيقاف صفقة الشراء لعدد منها بقيمة تقدر بتسعة مليارات؛ وبذلك تكون تركيا ضربت إدارة ترمب في الداخل والخارج! ومن يعرف ترمب يدرك أن هذا الأمر لا يمكن أن يمر مرور الكرام، وخير شاهد على ذلك موقف ترمب من اتفاقية (نورد ستريم 2) للغاز الطبيعي بين روسياوألمانيا، والتي من خلالها سيتم مد أنابيب تحت بحر البلطيق، لنقل ما يصل إلى 55 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي الروسي إلى ألمانيا كل عام، وبذلك تستغي ألمانيا بشكل كبير عن استيراد الغاز من أميركا؛ الأمر الذي أثار حفيظة ترمب إلى حد تهديد المستشارة «أنغيلا ميركل» باتخاذ إجراءات من شأنها إرهاق اقتصاد ألمانيا وحلف شمال الأطلسي.! وقال مخاطباً المستشارة قبل بدء أعمال قمة حلف شمال الأطلسي في بروكسل بالقول: «إن ألمانيا تثري روسيا، إنها رهينة روسيا!». الأمر الذي استدعى المستشارة الألمانية بالتراجع، وإعادة صياغة الاتفاقية ضمن منظومة الاتحاد الأوروبي. لكن هل ستكون الحكمة الألمانية حاضرة داخل صناعة القرار التركية؟ العدوان الأخير يحكي قصة مغايرة.! إفشال الاقتصاد التركي من خلال العقوبات الصارمة كانت حاضرة في بيان ترمب الذي نشره يوم 14 من الشهر الجاري، وقد أعلنت الإدارة الأميركية عن عقوبات مشابهة للعقوبات التي طالت دولة الاٍرهاب (إيران) ورموز النظام. هذه العقوبات لم يقصد بها إضعاف الاقتصاد التركي فحسب، بل حلفاء تركيا كذلك الذين هم أعداء أميركا؛ من خلال ضرب حظوظ شركاتهم التي لها نشاط تجاري في الداخل الأميركي؛ ليتيح فرصاً أكبر للشركات الأميركية. هذه السياسة مارسها ترمب لضرب الشركات الصينية داخل أميركا، مثل: شركة الاتصالات الصينية (ZTE)؛ بذريعة التعامل مع إيران التي تقع تحت حصار العقوبات. لكن يبقى السؤال أين المكون الكردي من هذه المعادلة «الترمبية» -إن صح التعبير-؟ وهل ستتمكن العقوبات من حفظ الدم الكردي؟ بالرغم من أن الاتحاد الأوروبي اليوم وصف العمليات التركية في سورية ب»الاستعمار»، إلا أن المكون الكردي المستهدف من قبل تركيا منذ سقوط الدولة العثمانية، لم ينسَ تخليَ العالم عنه -بما في ذلك الأوروبيون- وذلك بعدم الالتزام بمعاهدة «سيفر» التي وقعت عام 1920، وتضمنت تخلي الدولة العثمانية عن جميع الأراضي العثمانية التي يقطنها غير الناطقين باللغة التركية. وهذا العدوان الأخير ما هو إلا امتداد لذلك التاريخ، فهل سيعيد التاريخ نفسه مع ترمب؟ بعد أن كان الأكراد حليفاً قوياً للإدارة الأميركية في القضاء على داعش الذين يحتلون المركز الأول على قائمة أولويات إدارة ترمب لتحقيق السلام في الشرق الأوسط؛ وبالتالي إغلاق الطريق على المقاومة داخل واشنطن، التي تسعى لاستمرار وتعزيز تواجد القوات الأميركية، وهو ما لا يرغب به ترمب. هل العقوبات الأميركية ستكون كافية لتغيير التاريخ وعقود من الإقصاء التركي وتخاذل المجتمع الأوروبي لقضية شعب لم يعد له صديق إلا الجبال والرياح؟! اليوم وبعد قرار ترمب النهائي بالانسحاب من سورية لن يضطر لكتابة رسالة لأسرة أميركية فقدت أحد أبنائها في سورية، لكن سيكتب التاريخ بأن المكون الكردي ترك -كأقلية ضعيفة- هدفاً سهلاً لأحد أعضاء حلف الناتو، وسيتعرضون للإبادة الجماعية والتشريد ما لم يتدخل المجتمع الدولي بشكل فوري ويوقف هذا الاعتداء والنزيف الكردي.!