خاطب الله بالقرآن كل البشرية، وعلل استجابتهم له بما وهبهم من العقلية، فأعقب بعد كل خطاب يرتبط معرفته بالعقل قوله: (لعلكم تعقلون)، وعلى هذا خاطب النبي صلى الله عليه وآله، أمته وجعل إعمال العقل في استنباط الأحكام من مطلق الخيرية فقال: «من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين».. ليس من أحد إلا ويدعي أنه من المتجردين للحق، وأنه وقافٌ عند ما يقتضيه العقل والنقل حقًّا، غير أننا نجد هذه المنقبة، دعوى متجردة عن الحقيقة في كثير من المواطن، ومن أدعياء لا يفتؤون يختلقون العبارات العريضة، في مدح بعضهم بعضًا، وتزكية بعضهم بعضًا، وعاد الأمر أقرب إلى الجاهلية في التعصب للرأي وتزكية قائله والدفاع عنه، ولا يقتصر الأمر على ذلك بل يتعدى إلى الوقوف في وجه من تفوه بالحق وقرره، بحجة أن الاعتراف بإصابته الحق إظهار له وتلميع، وموافقته فيها تدليس وغش للعامة فيوافقونه ويتبعونه فيما خالفهم فيه، ويحاولون قدر الإمكان إعطاء الرأي الفردي صفة الاجتماع عليه، ليكون مميزًا لهم عن غيرهم، ومن ثم ولو كان رأيًا فقهيًّا قد درج على الاختلاف فيه أئمة الإسلام وعلماؤه فمن خالفهم فيه رفعوا عقيرتهم بمقالتهم المشهورة "خالف العلماء" وفي الحقيقة من يقصدونهم من العلماء على خلاف كبير معهم، فهم من يعرف للعلم حقه، ويحفظون للمخالف مكانته، ولكن هؤلاء قد تجوزوا في دعوى التجرد حتى أصبحوا لا يلقون بالاً لكلام الأئمة والفقهاء الذين أصلوا لهذا الفقه أصوله وقعدوا قواعده. وعَودًا على ذي بدءٍ، فقد خاطب الله بالقرآن كل البشرية، وعلل استجابتهم له بما وهبهم من العقلية، فأعقب بعد كل خطاب يرتبط معرفته بالعقل قوله: (لعلكم تعقلون)، وعلى هذا خاطب النبي صلى الله عليه وآله، أمته وجعل إعمال العقل في استنباط الأحكام من مطلق الخيرية فقال: "من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين"، وقطعًا لا يقوم هذا الفضل إلا بمن أعمل ملكته الفقهية بالنظر في أصول الأدلة وفروعها، واستوعب الفقه من مصدره، وسبر الحالة الاجتماعية في العهد النبوي وما بعده، ونظر في اختلاف العلماء والفقهاء والمذاهب، وقارن في تطبيق الأدلة والفقهيات بين واقعها الذي صيغت لأجله وفرّق بين الثابت منها والقابل للتغير بتغير الزمان والمكان، كل ذلك يكفي في معرفته التدقيق في الموروث الفقهي واستيعاب ما كان معتمدًا في الاطلاع، ولا أريد هنا الإيغال في تأصيل قواعد النظر؛ لأن ذلك مما يطول ويطول، ولكن أريد أن ألفت نظر أولئك المدعين للتسمك والتجرد في مسألة من المسائل، إلى أن التجرد الحقيقي هو قطع النظر عما يصفك به مخالفوك بعد إبدائك ما تراه موافقًا للحق من الرأي، وليس التجرد هو الحفاظ على كينونة جماعة أو حزب أو طائفة كي لا يقال اختلفوا، فإن الخلاف في الفقه ليس داخلاً في قول الله تعالى: (ولا تنازعوا) فذلك هو النزاع المفضي للبغضاء والعداوة، ولا يعني الخلاف الفقهي، وإلا لما اختلف الصحابة ولا من بعدهم، ولا كانت المذاهب ولا العلماء، فالخلاف الفقهي هو حاجة بل ضرورة ماسة للأمة يتجدد في كل زمان ومكان، لمصاحبة الضرورات والحاجيات والكماليات الشخصية والعامة الفردية والجماعية! وإن أحدنا ليقرأ: "إذا خالف قولي الحق فاضربوا بقولي عرض الحائط" عن أئمة كثر، ولم يقل أحدهم يومًا: "إذا خالف قولي قول فلان فاضربوا بقولي عرض الحائط"؛ لأن الجميع في صفة الفقهية لهم نفس الحق في النظر إلى الدليل، وحين يكون الدليل واسع الدلالة، محتملاً فقهيات كثيرة، فإن من غير أدب الفقه والعلم أن تتهم من يخالفك رأيك بمعصية الله ورسوله، فعين التجرد في ذلك هو أن تعترف بحق الآخرين في النظر والأخذ بنتيجته، ولو أنا سلكنا هذا المسلك في فهم التجرد لما احتجنا اليوم إلى التنصل حالًا أو مقالاً عن كثير من آرائنا، ولاكتفينا بتمكين آراء مخالفينا، وقد بذلوا الجهد فيما رأوه؛ لأن احتمال صوابهم الذي كان من المفترض أن تحتمله قد آن أوانه. هذا، والله من وراء القصد.