في زمن قديم وبينما كنت أنزلق من ذاتي لأستقر في قالب طالب في المرحلة الابتدائية يستعد في يومه الأول للذهاب للمدرسة، كانت الشمس حينها تُطل من خلف جبال "مدين" ترسل خيوطها الذهبية، تلاحق بقايا العتمة وتسوقها بعيداً نحو الغرب حيث مخبأها الأخير. السحب المذبوحة بألوان الفجر تهدي السماء الهيبة، أما البحر المنهك فلم يكف عن بعث روائحه مع نسائم كُل صباح لتجوب الأزقة برشاقة، البيوت المبللة بالندى تلفظ ساكنيها ولا تكترث بالنعاس العالق على أرواحهم. يخرج الأطفال وفي طريقهم للمدرسة كالعادة يمارسون لعبه اختلاف الذوات المدهشة يقلدون مشية الطيور يرتدون جلباب الخيال الواسع! يرسمون للشمس ظلالاً! على مدخل المدرسة تتصاعد رائحة الطباشير منبعثة من الفصول المتعافية من غيبوبتها. المقصف يترقب التدافع حوله في اشتياق، غرفة المدير ذات الأثاث الوثير تحتفظ بهيبتها. وفي الساحة تظهر أوجه معلمين مألوفة وأخرى غريبة، رعشة تسري في جسد المدرسة شُعاع الشمس ينساب من نوافذ الفصول المشرعة باعثاً للدفء يجلس الطلبة على الكراسي بعد أن اختاروا أماكنهم بعناية، في أحد الفصول دخل معلم قصير القامة يرتدي ثوباً أبيض فضفاضاً لحيته البيضاء الطويلة أعطته مظهراً ملائكياً بعد أن ألقى السلام على الطلبة وضع حقيبته السوداء على الطاولة بينما انشغل بكتابة التاريخ على لوح السبورة ليعود بعد ذلك ويُنقل بَصره في أرجاء الفصل قال بنبرة هادئة: أنا معلمكم الجديد. سكت قليلاً وأخذ ينظر من النافذهة لسيارة عبرت الطريق العام، ثم أعاد نظره للداخل واصل حديثه جئتكم من "المدينةالمنورة سنجعل هذه الحصة للتعارف، وأضاف بصوت جاد وهو يدير مفتاح مروحة السقف ليتعالى صريرها أرغب منكم أن تدلوني على أفضل مكان يبيع النمل الحلوب!، فمنذ أن غادرت المدينة لم أتذوق حليب النمل اللذيذ. للوهلة الأولى لم يستوعب أحد حديث المعلم استغرب الجميع تحدث أحدهم: عذراً يا أستاذ لا يوجد نمل يُحلب. قال الأستاذ بنبرة واثقة وهو يشق طريقه بين طاولات الطلبة شابكاً يديه خلف ظهره عفواً يا بني عدم وجود النمل الحلوب في قريتكم لا يعني ألا وجود له أبداً، نحن في "مدينة الرسول" لدينا نمل بحجم كبير نحلبها ونشرب حليبها وعندما رأى أعين الطلبة الصغيرة متسعة بالدهشة !! قال: ليتني جلبت النمل الحلوب معي ازدادت الدهشة من هذا الخبر الغريب الذي يرويه أستاذ ورجل دين لا يمكن أن يكذب أبداً يرويه بثقهة كان لحظتها أن تمنى أحد الطلاب لو تهرب الساعات من عنفوان الزمن كي يعود حاملاً هذا الخبر المدهش يحكيه لكل أهل الحارة، قال بصوت خفيض ربما استغنينا عن تلك الأغنام المكلفة. كان الصمت قد تسيد الموقف بدده صوت المعلم الجليل: هل صدقتم ما قلته للتو وأضاف بعد أن نظر من النافذة لشواشي النخيل المتناثرة. ما أريد قوله لكم من خلال تلك الحكاية: حكموا عقولكم ولا تصدقوا كل مايقال، الأخبار هكذا على عواهنها هذا أول درس لكم "لاتصدقوا كل مايقال" .