تأليف: فادي حاطوم سارة فتاةٌ في التّاسعة من عمرها، محظوظةٌ جدّاً. فوالداها يُحبّانها، ويقدّمان إليها كلَّ ما تتمنّاه، أو تطلبه، أو تُشير إليه... فغُرفتها حافلةٌ بمجموعةٍ كبيرةٍ من الكتب والألعاب المتنوّعة والمختلفة. ويؤنسُها في بيتها صديقان أليفان: كلبٌ أبيضُ، موفور الشّعر يستقبلُها محرّكاً ذيله بفرحٍ، وهرّةٌ سياميّةٌ تموء مواءً متواصلاً، رافعةً قائمتيها تنتظر سارة أن تأخذها بذراعيها. بالرّغم من كلّ ما هو متوفّر لسارة فهي تُعاني من مشكلةٍ ذاتيّة طالما نغّصت عيشها وجعلتها كئيبةً ومنزعجةً ومتوتّرةَ الأعصابِ، هي رؤيتها للحشرات تزحفُ على أرض غرفتها أو أرض ورفوف المطبخ. وسرعان ما تحوّلت كآبتها إلى فرحٍ إثر تجربةٍ مرّت بها، وأعطتها درساً في التّغلّب على مخاوفها. استيقظت سارة ذات صباحٍ من النّوم سعيدةً، فذهبت إلى المطبخ لتتناول فُطورها، فوجدت أمّها قد أعدّت لها البَيض والحليب وفطائر الجُبنة. غير أنّها كانت ترغبُ في تناول الحليب مع رقائق الذُّرة. أخذت سارة بسرعةٍ علبةَ الرّقائق، ومدَّت يدها لتتناول مجموعةً منها، ثمّ صرخت ورمت الرّقائق بسرعةٍ إلى الأرض قائلةً: "النَّمل، النّمل... ماما أنظري إلى جيوش النّمل تهاجم طعامي المفضّل... إنّني لم أعد أطيقُ الحالة هذه، فالنّملُ يلاحقُني من مكان إلى مكان ليُنغِّص عيشي، وها هو يلتهمُ طعامي المفضَّل..." ثمّ أسرعت إلى المكنسة وانهالت بها على النّمل بقوّة وبضرباتٍ متلاحقةٍ وسريعةٍ قائلةً بنبرةٍ حادّةٍ: "سأقضي على النّمل، وعلى كلّ من يُشاركني طعامي... سأطرُدُ كلَّ ما يثير غضبي واشمئزازي..." ثمّ انهالت على النّمل بالمكنسة ضرباً وطرداً... وهبّت ريحٌ قويّةٌ فتحت النّافذة وانساب منها رجلٌ كأنّه قادمٌ من عالم الأساطيرِ، يرتدي ثياباً تُثير الضَّحك والغرابة معاً. واتَّجه نحو سارة وانحنى لها مُبتسماً: "لا تخافي يا صديقتي سارة، أنا زاك صديقك الذي يُراقبكِ ويريد مساعدتك، ويحمل إليك الخير والمحبّة وهدوء الأعصاب... انتفضت سارة وقالت: "من انت؟ وما الذي تريده منّي؟ لقد حذّرني أهلي من الغرباء". ضحمك الغريب بصوتٍ عالٍ: ها، ها، ها... إنني لست غريباً... انّني صديقٌ لكلّ طفلٍ يخاف من الحشرات او الحيوانات، وقد جئتُ محاولاً مُساعدتك لتتغلّبي على مخاوفك". قالت سارة: "وكيف ستُساعدني؟" أجابها زاك: "سأقدِّم لك عرضاً لم يقدِّمه إنسانٌ قبلي..." صرخت سارة متعجّبة: "واو... إنّني أحبُّ المُفاجآت... ما الجديد الذي ستُقدّمه إلي؟" أجابها زاك: "سأحقِّقُّ لك ثلاث أمنياتٍ تختارينها بنفسك". قفزت سارة من الفرح وقالت: "هل انت المارد الجميل الخارج من فانوس علاء الدّين؟". قاطعها زاك قائلاً: "إنّني... إنّني ملاكك الحارس الذي يسبح في الفضاءِ، ويعيد البسمة إلى كلّ طفلٍ خائفٍ وحزينٍ... إنّني يا صديقتي لا أملك بساطاً سحريّاً يطوي الأبعاد، ولا طاقيّة الإخفاء ولكنّي أعد أصدقائي بتحقيق ثلاث أمنياتٍ... هيّا، حدّدي الأمنية الأولى...". فكّرت سارة قليلاً وقالت: "النّمل، أمنيتي الأولى أن يختفي النّمل من بيتي فلا يعود إليه أبداً، وأن يُقضى على أعدادٍ هائلةٍ منه، وأفتح عينيّ فلا أرى نملةً واحدةً". قال زاك: "سأحقّق أمنيتك". وتمتم بكلماتٍ غامضةٍ: "هبرود، مبرود، شبرود... ليختف النّمل من الوجود". نظرت سارة حولها، فلم تجد أثراً لنملةٍ واحدةٍ، ونظرت من النّافذة وقالت: "الحمد للّه، لقد اختفى النّمل من الوجود". واقتربت سارة من زاك قائلةً: "أمنيتي الثّانية أن يختفي النّحل من الوجود. إنّني أكره هذه الحشرة التي تهاجمني، وتستوطن أغصان الأشجار، وتتغذّى من رحيق الأزهار... إنّني لا أزال أشعر بوقع لسعتها عندما انقضّت عليّ في الأسبوع الماضي". قال زاك: "حسناً يا سارة، سأحقّق أمنيتك"، ثمّ تمتم بعباراته السّحريّة مرّةً ثانيةً: "هبرود، مبرود، شبرود... ليختف النّحل من الوجود". فاختفى النّحل... سرّت سارة كثيراً، وكادت تطير من الفرح، واندفعت نحو زاك قائلةً: "أمنيتي الثّالثة ان تقضي على الذّباب والبعوض... إنّ الذّباب يحمل السّموم والجراثيم إلى جسم الإنسان وطعامه، وثير في نفسي الشّعور بالتّقزّز". قال زاك: "سأحقّق أمنيتك الثّالثة..." وتمتم بعباراته السّحريّة للمرّة الثّالثة: "هبرود، مبرود، شبرود... ليختف الذّباب والبعوض من الوجود". فاختفى الذّباب والبعوض... قال زاك: "لقد حقّقت أمنياتك، وأرجو أن تكوني سعيدةً، وأن تزول الكآبة من نفسك..." اقتربت سارة من زاك قائلةً: "إنّني سعيدة جداً يا ملاكي الحارس، شكراً شكراً لك يا صديقي، لقد حقّقت جميع أمنياتي في لمح البصر... لن أكون وحدي سعيدةً، فإنّ جميع الأطفال والأهل والأصدقاء سيكونون سعداء باختفاء تلك الحشرات المزعجة". ونظر إليها زاك متعجّباً من سلوكها واحكامها الجائرة، وقد تغيّرت ملامح وجهه فبدا متجهّم الوجه متوتّر الأعصاب: "يا إلهي، إنّنا سنواجه مشكلةً بيئيّةً خطيرةً... إنّ اهتمامي بسارة قد أعمى بصيرتي، فأوقعتُ كثيراً من الكائنات الحيّة في شرّ ورطةٍ قد تسبّب لهم المجاعة والموت... مسؤولاً سأعتبر نفسي بسبب تسرّعي عمّا سيدحث لهم من أخطارٍ". تقدّمت سارة نحو زاك وقد ارتسمت الدّهشة على وجهها فقالت: "ما المُشكلة يا صديقي؟ وهل أنا المسؤولة عن ذلك؟" أجابها زاك: "إنّنا مسؤولان معاً عمّا سيُصيب الطيَّر والإنسان من أذى... يا صديقتي، إنّ الذُّباب والبعوض غذاءٌ للعصافير والطُّيور. فالعصفور الدّوريُّ مثلاً، يلتهمُ المئات من الذُّباب والبعوض كلَّ يومٍ، وطير السَّنونو الذي تُشاهدينهُ عند غروب الشَّمس ينقضُّ على أسراب الذُّباب والبعوض صاعداً هابطاً، فيلتهم أعداداً كبيرةً منها، ويُخلِّصنا من شرورها. ولو قضينا على هذه الحشرات لانقرض العصفور والسُّنونو". "ثمّ يا صديقتي، فإنّ أعداداً هائلةً من صغار الحشرات سوف تتكاثر بسرعةٍ فائقةٍ ولن يوقفها إلاّ المُبيدات والسُّموم، وأنت تعلمين جيِّداً أنَّ المُبيدات تلوِّث الجوَّ والتُربة، والأشجار، والخُضار، والفواكه، ولسوف تسري هذه السُّموم في جسم الإنسان، ناهيك عن الهواء الذي يدخُلُ إلى رئتيه حاملاً معه السُّموم، والذي يُصافح جلده فيُسبِّب له أمراض الحساسيّة والالتهابات..." قالت سارة: "يا للهول! يا للكارثة! لم أكن أدري حقيقة الأمر، هل انّني المسؤولة عمّا سيصيب الإنسان والعصفور والطّير؟" لا، لا، سأتراجع عن أمنيتي... أرجوك، هل يُمكنني أن أُلغي ما تمنّيته؟" قال زاك: "طبعاً، ولكن أسرعي". قالت سارة: "أتمنّى أن يعود الذُّباب والبعوض إلى العالم". وتمتم زاك بعباراته السّحرية... فعاد الذّباب والبعوض إلى العالم، وكأنّ شيئاً لم يكن. قال زاك: "إنّنا الآن يا سارة أمام مُشكلةٍ ثانيةٍ وهي اختفاء النّحل من الطّبيعة. ألا تعلمين يا صديقتي أنّ النّحل يجني الرّحيق من الأزهار، ثمّ يحوّله إلى عسلٍ فيه شفاءٌ للإنسان؟ ألا تعلمين أنّ العسل يدخل في تركيب كثيرٍ من الأدوية؟ إنّ العرب وغيرهم من الأمم قد استعملوه دواءً شافياً لكثيرٍ من أمراض الجهازين الهضميّ، والتّنفسيّ. ثمّ إنّ العسل غذاءٌ للدّبّ، ذلك الحيوان الوديع الذي يكسو الفرو جسده، والذي تحتفظين بصورته في لوحةٍ معلّقةٍ على جدار غرفتك، وتحملينه بين ذراعيك فيُشاركك فراشك ومقعد السيّارة". قالت سارة: "يا اللّه، ساعدني كي اتخلّص من المحنة التي أعيشها، يا ربّي أنقذني من الورطة التي وقعت فيها، لقد أسأت إلى الإنسان والحيوان". نظر زاك إلى سارة مُبتسماً فقال: "لا تُعذّبي نفسك يا سارة، ولا تلوميها، باستطاعتك أن تتراجعي عن أُمنيتك... ولكن بسرعةٍ..." واندفعت سارة قائلة: "أتمنّى أن يعود النّحل". وتمتم زاك بعباراته السّحريّة، فعاد النّحل إلى نشاطه وحركته. قال زاك: "بقيت الأمنية الثّالثة، وهي النّمل.. صحيح أنّه يتغذّى بالخضار والفواكه والحبوب والحلويّات، وأنّه يُشارك الإنسان طعامه، إلاّ أنّ النّملة حشرةٌ وديعةٌ تختفي في فصل الشّتاء والبرد عن عيون البشر، وتستيقظ في فصلي: الرّبيع والصّيف لتتزوّد بالحبوب والخُضار... ثمّ إنّ النّملة صورةٌ للجدّ والكفاح وعدم الاستسلام للفشل". "ألم تسمعي بقصّة القائد المقدونيّ الذي صدّته أسوار الإسكندريّة قديماً، فتراجع وجيشه؟ ثمّ يخبرنا التّاريخ أنّه استند إلى صخرةٍ ملساء كبيرةٍ، فشاهد نملةً تحمل حبّةً من القمح تفوقها وزناً وحجماً، وتُحاول الصُّعود بها إلى سطح الصَّخرة، وقد هوت إلى الأرض مع الحبّة ستّ مرّاتٍ ولم تستسلم للفشل، واستطاعت في المرّة السّابعة أن تصل بالحبّة سالمةً إلى سطح الصّخرة. أعطت النّملة القائد الكبير درساً في التّصميم على الفوز وتحقيق النّصر، فقام وجمع جنوده وحقّق النّصر..." قال زاك: "يا صديقتي، إنّ أصغر الكائنات تقدّم لنا دروساً حيّةً في الكفاح والدّأب، وإنّنا نقتدي بها إذا اعترضتنا الحواجز والهموم والمشاكل". صرخت سارة: "إنّني آسفةٌ يا ملاكي الحارس، لقد كنت جاهلةً حقيقة كلّ كائن ودوره في الحياة. سأتراجع عن أمنيتي وسريعاً". وتمتم زاك بعباراته السّحريّة، فعادت الحياة إلى رقائق الذّرة ودبّت فيها أسراب النّمل. قال زاك: "إنّني سعيد جداً لأنّكِ عرفتِ أهميّة كلّ كائنٍ حيٍّ، ومكانه في الحياة، ودوره فيها، وإنّ كلّ ما في الطّبيعة يهدف إلى غرضٍ ما... والحياة تستمرّ متكاملةً بترابط كائناتها وبقيام كلّ واحدٍ منها بدوره فيها، وإنّ في القضاء على نوعٍ من أنواع الكائنات يحدث خللاً لا يمكن أن نتدارك نتائجه". تقدّمت سارة وعانقت ملاكها الحارس زاك وقبّلته، راجيةً أن يتناول العشاء معها، وطالبةً أن يدوّن لها عنوانه ورقم هاتفه على دفترها، وأنّها سوف تتّصل به إذا وقعت في ورطةٍ، أو صادفت مشكلةً. قال زاك: "أودِّعك يا صديقتي، وأرجو لك حياةً وأحلاماً سعيدةً. إنّني راحلٌ، وسأتوجّه إلى بيت جارك، فهناك طفلٌ يعتقد بوجود أشباحٍ في خزانته ويحتاج إلى مساعدتي... إنّني أسكن في أحلام الأطفال، وبيتي يقع إلى القرب من أفكارهم ومشاكلهم، ورقم هاتفي مطبوع في عباراتهم وألفاظهم. إذا احتجت إليَّ، فكّري بالخير وتمنّي الخير والسّعادة لجميع الموجودات، فستجدين زاكاً إلى جانبك يباركك". سارة تنظر إلى زاك مُغادراً المطبخ بعينين مغرورقتين بدموع الفرح والوداع: "رافقتك السّلامة يا صديقي... رافقتك السّلامة... سوف نلتقي قريباً...". صادرة عن "دار اصالة"