تكتسب مكةالمكرمةوالمدينةالمنورة روحانية خاصة؛ تجعل قلوب المسلمين قاطبة تهوي إليهما. كما أن خصوصية هاتين البقعتين المقدستين تكتسيان أهمية خاصة إن على المستوى الأركيولوجي/المكاني أو الزماني. خصوصية تجعلهما إمكاناً ثقافياً مُلهِماً للحفر الثقافي والمعرفي وقراءتهما قراءة ثقافية وأدبية توازي قيمتهما التاريخية والحضارية والإنسانية. لكن مع الأسف لم نجد استثمارًا ثقافياً من قبل كتابنا ومثقفينا ومفكرينا بشكل يوازي هذه الأهمية والخصوصية. تُرى إلامَ نعزو هذا القصور؟ لم غابت أقلام كتابنا ومثقفينا ولم يحرضها هذا الواقع الثقافي الاستثنائي للبقعتين؟ كيف يمكن قراءة هذه الخصوصية وتقديمها للعالم بشكل لائق يعكس ثقافتنا ووعينا الوجودي بهما؟ الرحلة الحجازية وفي البداية قال إبراهيم الدغيري أستاذ مشارك قسم اللغة العربية جامعة القصيم بحكم التخصص في أدب الحج: انتهيت قبل أيام من قراءة أطروحة دكتوراه عنوانها: "الحجاز في أدب الرحلة العربي" قام بتأليفها باحث باكستاني مبدع ومجتهد في جامعة باكستانية. وقبلها كنت أتصفح كتاباً علمياً ضخماً تبلغ صفحاته قرابة الألف، عنوانه: "الرحلة إلى بلاد الحجاز في الأدب المصري الحديث" مؤلفه باحث مصري جاد في جامعة الأزهر. وكتاباً آخر عنوانه: "الرحلة الحجازية" وهو أطروحة علمية قدمتها باحثة مصرية من جامعة الأزهر. وآخر من بلاد المغرب العربي عنوانه: "الرحلة وفتنة العجيب بين الكتابة والتلقي" يتخذ من رحلات الحج مادة أساساً. وإنه ليوجد مهتمون بأدب الحج في كل من دولة الإمارات والجزائر وتونس والهند وغيرها من البلاد العربية والإسلامية بلغ من حماستهم أن أقاموا جمعيات أو دور نشر أو حقولاً علمية داخل الجامعات تهتم بهذا الموضوع وتسهم فيه. وقد رشح عنهم دراسات ومؤلفات معتبرة تأطر من خلالها موضوع الأدبية في النصوص الرحلية والحجية بشكل يبعث على التفاؤل بأن حقلاً معرفياً وجنساً أدبياً آخذ بالتشكل. إن اهتمام تلك الأقطار بموضوعة الحج، وقدسية مكةوالمدينة ليس محل عجب؛ إذ يمثل القطر الحجازي أهمية خاصة لكافة المسلمين عرباً وغير عرب، وهم مشكورون جداً على جهودهم العلمية ومساهمتهم المعرفية. وأضاف الدغيري متعجاً من انصراف أبناء وبنات البلاد التي تضم الحرمين الشريفين عن هذا الحقل الحضاري المعرفي الواسع الواعد، كيف ضاقت أقلامهم وقرائحهم عن الاهتمام به إنْ على مستوى الإبداع شعرًا ونثراً أو على مستوى الدراسات تحليلاً وفحصاً؟ إنني أتحدث هنا من الزاوية الأدبية والثقافية، فبعد جيل من المهتمين الرواد أمثال حمد الجاسر وعبدالعزيز الرفاعي وعاتق البلادي.. لا يوجد إلان مهتم شمولي يكتب في هذا الموضوع، ولا قسم جامعي يعتني به. ويكفي أن أشير إلى أن أدب مكةوالمدينة وأدب الحج لم تُنجز فيه على المستوى السعودي إلا دراسات محدودة جدًا بعضها كُتب منذ عشرين عاماً!! قد يعود الأمر إلى الغفلة عن هذا الموضوع لكن ذلك لا يكفي. كيف يغفل أهل الدار عن كنوزهم؟ وقد يعود الأمر إلى تصور أن الاهتمام بهذا الموضوع هو ديني محض، وأن المؤلفات في أدب الحرمين الشريفين ذات طابع فقهي أو تعبدي، وهو تصور خاطئ تمامًا. لأن لفظة الحج اكتسبت دلالات إشعاعية جعلتها أوسع من دلالتها التعبدية المحصورة بالأفعال المخصوصة، لقد أصبحت كلمة حضارية تستقطب العلماء والمثقفين والأدباء والكتاب ليبدعوا في الحديث عنها، هناك آلاف القصائد التي كتبت عن الحج بنَفَس شعري رائع، عدد من الشعراء كتبوا عن الحج وهم لم يحجوا!! مما يعني أن دلالة الحج اكتسبت معنى غير اصطلاحي يدنيها من الشعرية مثلها مثل نجد والعقيق وجبل الريان. وتمادياً في موضوع شعرية الحج أوضح الدغيري إن ديوان العرب ينطوي على شواهد جمة لموضوعات تبعث على الدهشة مثل: الغزل في الحج!! وذم الحج!! ووصف الحج مشياً!! والغزل بنعال الرسول صلى الله عليه وسلم، وشعرية العقيق، وشعرية الخيف، وتمثلات الأنا والآخر في رحلات الحجاز، وأسئلة النهضة في رحلات الحج، الرمزية الحضارية للحجاز، والبعد الدلالي للزمان والمكان في الحج، دروب الجزيرة إلى مكة في الآثار الأدبية.. وغيرها كثير جداً وهو موضوعات تستحق الفحص والاستقصاء. وكما اهتم الشعر بموضوع مكة ومشاعرها والمدينة ومحيطها فإن الكتابات النثرية حفلت بالعديد من اللمحات خصوصاً الروائيين المكيين والكتاب المدنيين لكن إسهامهم لا يوازي أهمية المكانين فجل الأوصاف الأدبية والكتابات التقريرية يكتبها الرحالة الوافدون الذين يحملون مشاعر جديدة تجاه المكان أكثر من أبناء المدينتين. واختتم بقوله: إنه على الرغم من أهمية الدراسات التخصصية الصادرة عن الجهات المعنية التي تدرس مكةوالمدينة من حيث المناخ أو الصحة أو التعليم أو إدارة الحشود.. إن التآليف الحضارية والكتابات الثقافية والنصوص الإبداعية عن قطر الحجاز تعاني من صدود الباحثين السعوديين لأمر غير مفهوم، وليس لي إلا أن أردد هنا ما قاله إبراهيم الفلالي قبل سبعين عاماً في مجلة المنهل إذ يقول: "في زحمة الحج أدب تمتلئ به الدفاتر، وتكتظ به الصحف، ويستهوي النفوس بحلاوته، ويختلب العقول بطلاوته، لو كان لدينا من يكتبه ويعنى به، ولكن تلك الزحمة التي تختلف إلينا كل عام تصرفنا عن هذا الأدب القيم الممتع، فنفتقد بذلك ثروة أدبية نحن في أمس الحاجة إليها". الاستثمار الثقافي وأكد د. عبدالعزيز الحيدري - دكتوراه في الأدب والنقد من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية- على أن ثمة استثمار ثقافي ومعرفي يسعى أن يكون موازيًا ومواكبًا لما تستحقه هاتان المدينتان المقدستان من أهمية، ونحن إذا رأينا الجهود المؤسساتية الحكومية أو الجهود الفردية أدركنا وجهًا من وجوه تلك العناية، ولكننا لا نزال نطمح أن تكون تلك الجهود سبّاقة تستشرف وتخطط ثم تنفذ وفقًا لإجراءات مدروسة شكلًا ومضمونًا، ولعلي في هذا المقام أذكر بجهود وزارة الحج في هذا المجال فهي تقيم ندوات سنوية تعنى بهذا الموسم في مكة، وكذلك جهود مركز تاريخ مكة، ومركز بحوث ودراسات المدينةالمنورة، ولا يخفى أن جهود الصحف السعودية يمثّل وعيًا بأهمية استثمار هذا الموسم وإشهار الفعاليات والمؤتمرات المصاحبة، بل إن الأمر يمتد إلى أبعد من ذلك إذ يَحْسُن بالجامعات السعودية التي تضم بين جنباتها عديد المتخصصين والمتخصصات في التاريخ والأدب والجغرافيا وغيرها من التخصصات التي من شأنها أن تخدم ثقافة هاتين البقعتين المقدستين وتوجّه أقلام الآخرين من المثقفين إلى أن يُسيلوا مداد أقلامهم تأليفًا وإرشادًا لهذه المكانة، ومن ثم تعزيز ذلك بمبادرات تضمّ لجانًا عليا تشرف عليها جهات كبرى تُعرف بحسن الإدارة وجودة المخرجات كدارة الملك عبدالعزيز -مثلاً وكذلك المركزان السابق ذكرهما. اختتم الحيدري بقوله: إذا كانت الانطلاقة لتعزيز هذه الخصوصية نابعةً في نفوسنا من أهميتها فسوف يكون لها صدى واسع وعريض في أرجاء العالم، شريطة وجود منافذ إعلامية فاعلة ومميزة تكسب الرهان مع نفسها وأمام العالم أننا قادرون على استيعاب هذه الخصوصية التي شرّف الله المملكة العربية السعودية أنْ كانت جزءًا مهماً من جغرافيتها، فهل نكسب الرهان ونطوّع الأداة الإعلامية صوب مكةوالمدينة بوصفهما تاريخًا وإرثًا يصنع حاضرنا ومستقبلنا، كما كان في سابق العهد يصنع يومنا؟!. وهج التجربة وأبان الدكتور عبدالله حامد استاذ الأدب والنقد بجامعة الملك خالد عن الأهمية البالغة والبعد الكوني لهذه المدينتين العظيمتين، إلا أنني هنا لا يمكن أن أعمم الحكم، وإن كنت في الوقت ذاته أرى أنهما لم تأخذا المكان الذي يتناسب وجزءاً من أهميتهما في بعض كتابات المبدعين السعوديين، على أن ذلك لا يعني عدم حضورهما عند بعض الأدباء العرب في أجناس أدبية مختلفة، يأتي أدب الرحلة في مقدمتها ولاشك، وأحسب أن قضية "ألف" المكان، وتكرار رؤيته يسهم في القضاء على وهج التجربة، وهو ما قد يكون حاجزاً أمام بعض الأدباء السعوديين، آية ذلك أنك تقرأ عند بعض أدباء العربية أدباً يفيض بجمال التعبير، الناتج عن نوعية التجربة، وسنجد ذلك فيما كتبه أمثال "المازني وشكيب أرسلان وعلى الطنطاوي - وعائشة عبدالرحمن (بنت الشاطئ) ومصطفى محمود، ونعمات أحمد فؤاد، وجمال الغيطاني، وصلاح منتصر" وغيرهم ، وهي تجارب قدمت حرارة التجربة في أعمال ضاجة بالصدق والتجلي، ويمكن أن أضيف إلى ما سبق حول عزوف بعض الأدباء عن الكتابة ما يمكن أن يكون عائداً إلى رغبتهم في خلوص التجربة، والبعد عن ما قد يرى أنه عرض لها يؤثر على هذه الخصوصية والإخلاص بين العبد وربه، بيد أن ذلك لا يمنع من أن توظف هذه الأماكن وما تحفل به من لقاءات بشرية نوعية، وحركة دائبة، مما يمكن أن يكون مجالاً من أهم مجالات الفن القصصي والروائي، وأجزم أن المكان وخصوصيته الكونية والتاريخية والحضارية عموماً ما زال مع ما قدم منجماً بكراً يحتاج الأدباء الذين يتعمقون المشاهد ويولدون الأحداث الجميلة وفق ما تثيرهم به وتثريهم هذه المدينتان العظيمتان بما حوته من جلال وجمال. المدينتان المقدستان وبدوره قال الدكتور سعد الثقفي، شاعر: لم تكن المدينتان المقدستان بمعزل عن الثقافة والأدب في يوم ما، كيف لا وهما تزخران بالعديد من المثثفين والأدباء منذ القدم. وكان للتلاقح الثقافي والأدبي بينهما وبين ما يُعرف بالمجاورين الذين يأتون للحج والزيارة ثم يمكثَون إلى ما شاء الله، فيبثون علومهم وآدابهم في هاتين المدينتين. لكن الزمن قد تغير وبات الحاج يأتي مسرعًا إلى مكةالمكرمة حاجاً وللمدينة زائراً، ثم يعود إلى بلاده سريعاً. مما يفوّت عليه وعلى الأدباء - إن كان من أهل الأدب- فرصة اللقاء به وأخذ علمه. ولهذا لا تتاح الفرصة دائماً للقاء الأدباء الذين يجيئون كل عام لهما. وفي المقابل لا يوجد تعاون وثيق بين وزارة الحج ووزارة الثقافة في هذا الجانب، ليتم عمل استبيان على سبيل المثال وتعبئته من قبل قاصدي مكةالمكرمةوالمدينةالمنورة قبل مجيئهم للتعريف بهم إن كانوا من أهل الأدب والثقافة، وبالتالي يكون هناك فرصة لوزارة الثقافة، للاستفادة منهم. وجعلهم يعرفون بمنجزنا الثقافي إذا ما عادوا إلى ديارهم. وأضاف الثقفي إن الاستثمار الثقافي يحتاج إلى خطط حقيقية تترجم التقدم الذي أحرزته المملكة في هذا الجانب. وتمحو تلك الصورة القاتمة التي يعود بها الحاج (المثقف) عن واقع الثقافة في بلادنا وهي ليست كذلك بالطبع. وعلى المهتمين بالشأن الثقافي القيام بذلك. فهو مورد اقتصادي، ومجال للتلاقح وتبادل الأفكار. وفرصة سانحة للاستفادة من شعيرة الحج ثقافياً. والعمرة سيما وهما تتكرران سنوياً وفي وقت محدد. وخلال عملي في جريدة الرياضبمكةالمكرمة، لفترة تزيد عن ثلاثة عقود. التقيت بكثير من المثقفين من مختلف الأصقاع. لقد كانوا متعطشين لمعرفة ما عندنا من إرث ثقافي. الدغيري: إسهام الكتّاب لا يوازي أهمية المكانين الحيدري: الجهود الصحفية تمثّل وعيًا بأهميتها حامد: ألفة المكان تقضي على وهج التجربة الثقفي: الاستثمار الثقافي يحتاج إلى خطط حقيقية