إصلاح التراث يقتضي إصلاح النظرة السياحية الاستهلاكية له، ويبدو أن ثقافة جديدة تعزز من هذه النظرية المعرفية، وتقلل من زخم «تسليع» التراث في الأذهان، وهذه مهمة ربما تكون متأخرة بعض الشيء.. من الواضح أن التراث بحالته المادية الملموسة وحالته غير المادية بحاجة إلى إعادة إصلاح reform على المستوى الإداري وعلى المستوى العلمي المنهجي وعلى مستوى بناء القدرات المحلية التي تستطيع إدارة هذا التراث وتحويله إلى مصدر اقتصادي متجدد. لا أحد يستطيع إنكار الجهود التأسيسية السابقة التي أوجدت ما يمكن أن نسميه "ثقافة التراث"، ولكن يبدو أننا نعيش في عصر يتطلب تفكيراً من نوع آخر، تفكيراً شمولياً يقدم التراث في صورته المتكاملة التي تجعل منه تجربة حياتية يمكن الإحساس بها و"تذوقها"، وأنا هنا لا أريد أن أقول "يستهلكها" لأن فكرة استهلاك التراث كمنتج أو كسلعة مرفوضة من حيث المبدأ. إذا كيف كيف يمكن أن يتحول التراث إلى مورد اقتصادي دون أن يصبح سلعة استهلاكية، هذا ربما أحد الإشكالات المنهجية والفكرية التي يتصادم فيها التراث مع السياحة وتوجهاتها الاستهلاكية المبنية على صناعة "الوجهة السياحية". إصلاح التراث يقتضي إصلاح النظرة السياحية الاستهلاكية له، ويبدو أن ثقافة جديدة تعزز من هذه النظرية المعرفية وتقلل من زخم "تسليع" التراث في الأذهان وهذه مهمة ربما تكون متأخرة بعض الشيء، فمن النظرة العاطفية إلى النظرة الاستهلاكية تشكلت ذهنيات تمنهج التراث كمجموعة من المنتجات التي يمكن بيعها وتسويقها، وحتى نحدث نقلة جديدة لا تلغي البعد الاقتصادي لكنها تعزز البعد الثقافي، يتطلب الأمر"إعادة إصلاح" في إدارة التراث بشكل عام وتوجيهه توجيها يقدم المحافظة على قيمته وأصالته على القيمة المادية التي يمكن أن نجنيها من تسليعه. هذا التوجه يفرض رؤية جديدة في عملية التوثيق والإجراءات المتعبة في عملية المحافظة والتحضير للتراث كي يكون متاحا للجمهور. لعلي هنا أعود إلى عنوان المقال الذي يربط إصلاح الثقافة بإصلاح التراث والرابطة هنا مقصودة بل وعميقة فلا يستطيع احد ان يجادل ان منبع كل ثقافة هو تراثها وان أصول هذا التراث هي محركات الفكر والحاملة لبذور النواة الإبداعية فيه. ومع ذلك لا أريد ان يتهمني أحد "بالرجعية" كوني أعطي التراث كل هذا الحضور المعاصر والمستقبلي في حياتنا رغم أنني من الذين ينادون بثقافة المستقبل لا البقاء في الماضي لكنني مؤمن بأن الابتعاد عن الماضي يوازي البقاء داخله. هذا المأزق الذي يصنعه التراث هو الذي يجعل من تطوير منهج ثقافي يتعامل مع التراث كمنتج حدث فعلا في الماضي وكمصدر يولد ممكنات الإلهام والإبداع في المستقبل أمراً ملزما في وقتنا الراهن. في اعتقادي أن إصلاح الثقافة من خلال إصلاح التراث مسألة تتطلب الاقتناع بأن مولدات الثقافة وهويتها تكمن في البذور الموجودة في التراث وهي في الحقيقة البذور التي يمكن زرعها لتثمر منتجات جديدة، وهذا ما يجعلني أنظر للتراث من زاويتين: الأولى هي أن التراث بصفته تجربة سابقة نتجت عن البذور الأصيلة المولدة للثقافة.. وهذا يقتضي أهمية المحافظة على هذه التجربة وتقديمها للعالم. والنظرة الثانية هي أن التراث الموجود بيننا حاليا تكمن فيه هذه البذور المولدة للثقافة وعلينا البحث عن هذه البذور لتوظيفها بخلق ثقافة مستقبلية أصيلة، وهذا يتطلب أن نتعامل مع التراث بمنهجية علمية نقدية محايدة. الذي يبدو لي أن البعض قد يتساءل عن الحبل السري الذي يربط الثقافة بالتراث وكيف ان هذا الحبل غالبا ما يشير الى ان التراث هو نتيجة للثقافة وليس العكس كما أدعي أنا هنا، وهذا إلى حد كبير صحيح لكن ما أهدف إليه هو خلق ثقافة جديدة أو إصلاح الثقافة بشكل عام، وهذا قد يتطلب العودة إلى المنابع الأولى التي شكلت شخصيتنا الثقافية والبحث في مسببات وجودها وأكاد أجزم أن حزمة كبيرة منها كانت نتيجة للبذور الكامنة في التراث ولم نستطع حتى الان اكتشافها.. ما يقلقني فعلا هو أن الحماس نحو التراث في الوقت الراهن يجعلنا "نركض" في طريق يسطح نظرتنا له كمصدر مولد للأفكار والثقافة ويجعلنا نبتعد كثيرا عن البحث عن بذوره الأصلية والمولدة للأفكار.