ساد الاعتقاد أن ما يميز الإنسان هو كونه كائناً اجتماعياً، ورغم إثبات الدراسات لوجود هذه النزعة الاجتماعية لدى مخلوقات أخرى مثل الحيتان والدلافين والحشرات كالنمل والنحل بل وحتى لدى النباتات التي تمارس نوعاً من التكافل فيما بينها، إلا أنها تبادلات تنحصر ربما في حفظ النوع والبقاء، ويظل الإنسان المخلوق الأقدر والأكثر توسعاً في تكوين شبكة معقدة من التواصل الاجتماعي تتجاوز تحقيق البقاء؛ شبكة نابعة من الوعي، وربما -وقد يبدو ذلك طريفاً- فإن أحد ما يميز الشبكة الاجتماعية التي يضلع فيها البشر هذا الجزء المنحصر في الترفيه المُرَكَّب، أو بعبارة أدق التوسع في قدرة البشر على تبادل أفرادهم للترفيه، بحيث لا نجد نحلاً يجتمع لينصت لسيمفونية الطبيعة، ولا نجد قردة تتداعى لمراقبة مسرحية مطاردة الأسد لغزالة، وربما تضلع الحيتان في شبه رقصة تتلامس فيها وترسل شحنات عاطفية وتخلع خلالها طبقة من جلودها مثل الثعابين التي تنخلع جلودها دروياً لتسمح لها بالنمو، لكن الحيتان لا تجتمع في عرس لتغني وترقص وتحتفل، ولا تتشارك في دعوة بمطعم لتشارك الحديث على وجبة، وحده الإنسان العبقري الذي طور شبكة نظامه الاجتماعي للخارج، خارج النواة الضيقة، واخترع فضاءات للقاءات الجماعية وتبادل أو مشاركة المتعة مثل المطاعم ودور السينما والمسارح.. إلا أن هذا التوسع الاجتماعي للخارج يخضع للتبدل تدريجياً وبشكل غير ملموس إلا للمتعمقين بدراسة التطورات الاجتماعية، تبدل يدخل منعطفاً يقود للداخل، لحصر تبادل الترفيه للنواة الصغيرة المتمثلة في دائرة ضيقة قد تنحصر في البيت، بل وفي حجرة الفرد الخاصة بحيث لا تشمل ربما سواه، مثال على ذلك هذا التوسع المهول في المشاركين بشركات الترفيه التليفزيوني مثل نت فليكس NetFlex، والتي تبدع في توفير برامج الترفيه كالأفلام والمسلسلات، بحيث لوحظ استغناء الكثيرين بأنحاء العالم عن ارتياد دور السينما والمسارح (عدد المشتركين في نت فليكس). ومن جهة أخرى أثبتت التقارير الاقتصادية التي نشرت مؤخراً ارتفاعاً هائلاً في أرباح شركات توصيل الأغذية للمنازل، بلغ ما يقارب ال95 مليار دولار، بزيادة متوقعة بنسبة 20% في السنوات الخمس القادمة، وبصرف النظر عن الأهمية الاقتصادية لتلك النجاحات إلا أنها تثبت التوجه الاجتماعي لنمط معيشي يتمثل في انحسار الحياة في الخارج، وتصاعد توجهها للداخل، إذ تنتشر ظاهرة الفرد المنفرد بأجهزة ترفيهه: هاتفه، جهاز ألعابه الإلكترونية وشاشة تليفزيونه، وأضاف لذلك وجبته المفضلة التي وبزيارة لتطبيق هاتفي بوسعه استحضارها من مطعمه المفضل، وبلا جهد في الإعداد. وقد نبالغ بالقول إنه ميل قد يخلق ربما مثل حوصلات أو بيئات صغيرة يتجول فيها الفرد لا بين الأشجار في غابة أو بين كثبان صحراء أو بين أمواج بحر سابحاً متلذذاً بالشمس، وإنما مربوطاً بمقعده محاصراً بالأجهزة التي تضخ فيه واقعاً افتراضياً متجهاً للتجريد. سيناريو قد يكون مبالغاً فيه لكنه آيل للتحقق بدرجات تتفاوت من بيئة لأخرى، ونحن أبطاله باختياراتنا اليومية الصغيرة.