سُنة الإبراد تركها الناس وهم في حاجة إليها في كثير من بقاع الأرض، وليس ذلك إلا لأعذار لم يلقِ لها النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بالًا كقول بعضهم: «لا نريد الناس أن يتعودوا على ذلك»، أو يقول: «لا تثيروا الغرائب»، ومن هذه الأشياء التي لا وزن لها عند فقهاء الأمة! في الوقت الذي نرى فيه العالم كله منشغلاً يبحث عن حلول يقي بها الأرض من موجات الحر المتزايدة، نرى من البشر من يبحث عن دوره في خدمة أهل الأرض بغض النظر عن انتسابه العرقي أو الديني، فالقضية لا تحتمل الإهمال أو الاتكاء على المجهود الفردي. ومن البديهة حرص الناس فيما بينهم على بعضها، فتجد الدول والحكومات تبذل كل الجهود وتسخر الإمكانات لتوفر لشعوبها ما يقيهم موجات الحر، وكما هو الشأن في بلدنا الحبيب وقيادته الحكيمة، فالحمد لله على ما يسَّر للناس من السبل والإمكانات لتفادي كثير من مضاعفات تقلبات درجة الحرارة، فقد تيسرت "المكيفات" في المنازل والأماكن العامة والمشافي وأماكن العمل والمساجد حتى السيارات والمكاتب، والحمد لله على نعمة "التيار الكهربائي" الذي عم بنفعه جميع مناحي الحياة. فبحمد الله وشكره تدوم النعم وتندفع النقم. وقد يتعسر بل قد يستحيل أن نفعل شيئًا تجاه الحر غير الاحتماء بعدم التعرض لموجاته، خاصة في أوقات الذروة، وفي عز الظهيرة. ولنا أن نقف قليلًا مع معالجة نبينا - صلى الله عليه وآله وسلم - لمثل هذه التقلبات الطبيعية، فإنه لم يكن - صلى الله عليه وآله وسلم - مجرد معلّم يضع الأحكام دون النظر إلى ما يطرأ على الإنسانية من عوارض، بل وضع برحمته الحلول التي يتيسر بها العمل بأحكام الإسلام دون تحرّج، وقد كان بالمؤمنين رؤوفا رحيما، فكان - صلى الله عليه وآله - أحيانًا - يجمع بين الصلوات، فيؤخر الظهر إلى آخر وقتها، ويقدم العصر إلى أول وقتها، وكذلك في المغرب والعشاء دون عذر ولا سفر، ولما سئل ابن عباس عن ذلك قال "أراد ألا يحرّج أمته". فليس الأمر عنده مجردًا عن أداء عبادة، بقدر ما هو ربط العبادة بقدرات وسعة الإنسان، والله يقول "لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها". ومن سُنته التي تبين رحمة هذا الدين وسلوكه بالأمة مسلك التيسير أنه - صلى الله عليه وآله وسلم - "كان يأمر مؤذنه في الليلة الشديدة البرودة، والليلة المطيرة أن يقول صلوا في رحالكم". ومع تغير الأزمنة واختلاف المعايش عرفنا معنى قول ابن عباس "أراد ألا يحرّج أمته". حتى إذا ما طرأ على الأمة أمر تحتاج فيه إلى سلوك أيسر الأحكام، وجدت في أفعاله وأقواله - صلى الله عليه وآله وسلم - بابًا للدخول منه إلى فقهٍ يزيح الحرج ويدفع العسر عن طريق الأمة، فإن الأحكام الفقهية الاجتهادية تظل خاضعة لما قرره وأصَّله - صلى الله عليه وآله وسلم - في سيرته مع صحابته. ومن ذلك ما أردنا الحديث عنه من سُنة الإبراد التي تركها الناس وهم في حاجة إليها في كثير من بقاع الأرض، وليس ذلك إلا لأعذار لم يلقِ لها النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بالًا كقول بعضهم: "لا نريد الناس أن يتعودوا على ذلك"، أو يقول: "لا تثيروا الغرائب". ومن هذه الأشياء التي لا وزن لها عند فقهاء الأمة! فالإبراد رحمة، وسُنة ثابتة، وإن كانت المساجد فيها المكيفات، والمبردات، فإن الشوارع والممرات وغيرهما تفور من الحر، وفيح جهنم يلفح الوجوه! ولهذا ثمرات إيجابية أخرى، منها: تعوُّد المسلمين على تنوع الفقهيات وترك "التعود" على الأشياء حتى تصبح عادة تمنع الفقهاء والعلماء من الحديث عن اختلاف الفقهاء فيها. ومنها إبراز للرحمة التي كان يتصف بها نبينا - صلى الله عليه وآله وسلم - التي تفوق رحمة الوالدين بولدهما، فإن كثيرًا من الآباء والأمهات يمنعون أبناءهم من الخروج وربما عن عمل أو سفر، لكن لا يخطر على أذهان كثير من الآباء والأمهات معاناة غير ولدهما، فمتى رأى الأب أو الأم ابنه بخير حمد الله، لكن النبي - صلى الله عليه وآله - كان همه الأمة كلها دون استثناء، وكذلك ينبغي لمن نصب نفسه فقيها أو له يد في التيسير على الآخرين أن يتفكر مليًّا في رحمة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - حين قال "أبردوا عن الصلاة، فإن شدة الحر من فور جهنم". هذا، والله من وراء القصد.