كل بيئة اجتماعية خاضعة لإيحاء لا يتوقف عن تشكيل القيم والعادات والميول والاهتمامات لأفرادها، فيظنون أن هذا هو أفضل ما في الوجود، ومن هنا فلا يملك ملكة النقد الاجتماعي إلا القلائل من الناس بسبب خضوعهم لهذه العملية من التنويم الاجتماعي، المؤرخ البريطاني توينبي يذكر أن المؤرخين في العادة أميل إلى تسجيل آراء الجماعات التي يعيشون في كنفها منهم إلى انتقادها. فالانتقاد مزعج منفر والثناء مرغوب، ولكن المجتمع لن يتقدم إلا بالانتقاد. إذاً تقوم المسلمات والطقوس الاجتماعية بدور المخدر الجماعي الذي له بالغ الأثر في شل التفكير، والذي يقع تحت وطأته لا يستطيع أن يفكر إلا في حدود ما يمليه عليه الإيحاء الاجتماعي، ويقوم المجتمع من خلال سيطرة الإعلام والثقافة السائدة ونسيج القيم والمثل التراكمي، وسطوة العادات والتقاليد والعرف، بفرض حصار على استقلالية التفكير والشخصية، فيصرف الناس عن الحقائق، فهو نوع من الذهول يصاب به أفراد المجتمع، وهم واقعون في غيهب التنويم الاجتماعي كمن هو واقع في التنويم المغناطيسي، فيوهن الوعي، ويبعثر الإدراك، ويشل العقل، فيعمل الإنسان بصورة آلية على طريقة (الريموت كنترول). يوجه المجتمع والبيئة الثقافية مسار حياته وانفعالاته، ومشاعره وتوتراته الشخصية، رغم ادعائه أنه إنما يقوم باتخاذ قراراته بفعل إرادته وتفكيره المستقل، مشهد التنويم الاجتماعي يمر على الإنسان بشكل دائم وتلقائي، وهنا يتم استلابه مرتين؛ الأولى خضوعه للتنويم الاجتماعي، والثانية عدم تنبهه لأنه مجرد ترس في آلة يدور حيث تدور عجلة المجتمع، ويظن أن العقل الجمعي مهمة شريفة وإنقاذ لمخاوف التفرد والتميز، ولكنه مدفوع نحوها بفعل إيحاء المجتمع بأدوات الوعظ الثقافي الاجتماعي، إذ تتم برمجة عقول الناس وجدولة أذهانهم على ووفق الأنساق والضوابط التي يرسمها بتكثيف مركز مجموعات التأثير والاستحواذ من خلال المنابر الاجتماعية، فيقع الإنسان ضحية تمرير الأفكار والمسلمات والرؤية الأحادية، ليتم حجب وطمس بواعث التفكير المستقل، فينشأ الطفل وينمو ويتربى على ما قيل له بأنه صواب وحقيقة، فإذا سعت به الحياة في مدارج النمو وخطا نحو التكوين العقلي تشبث بما سمع واعتاد من صنوف وطرائق التفكير، وظن أنه واعٍ ومستقل في قراراته الحياتية. يقول الأستاذ علي الوردي: التنويم الاجتماعي له أثر بالغ في شل التفكير، فالذي يقع تحت وطأته لا يستطيع أن يفكر إلا في حدود ما يملي عليه الإيحاء التنويمي العام، وأنت لا تستطيع أن تجادله أو تباحثه مهما يكن دليلك إليه صارخاً، إن إطاره العقلي مغلق بشكل لا ينفذ إليه أي برهان مهما كان، ويصح القول إن التنويم الاجتماعي موجود أينما وجد الإنسان، ولا بد لكل إنسان أن يقع تحت وطأته قليلاً أو كثيراً وكلما ازدادت ثقافة الناس وتفتحت عقولهم ضعف فيهم أثر التنويم وقلت مخاطره.