تعد الطبيعة أكبر لوحة فنية متاحة لكل ذي بصيرة إذا ما أعارها الإنسان شيئاً من اهتمامه ومنحها القليل من وقته، وهي قاموس ثري بكل مفردات الجمال الطبيعي، والفنان الحقيقي هو من يستغل ذلك الثراء الجمالي وتلك العناصر لترتسم له لوحة فنية رائعة ينهل منها أفكاره وإبداعاته. إن الطبيعة التي أبدعها الخالق من حولنا هي جزء من عمل فني كوني يحيط بنا وما الفن الذي يمارسه الفنانون ويتعاطونه إلا محاكاة للوحة الطبيعة العظيمة الرائعة وانعكاس لها، وكذلك الابتكارات والاختراعات فمعظم الأعمال تلك إنما هي من وحي الطبيعة فحسب. كنت ومنذ وقت مبكر مغرماً بالتأمل في الطبيعة ومتمتعاً بها حتى أنني أرى الجمال في أبسط عناصرها وفي دقائق مكوناتها فتراني أقرأ كل شيء فيها سواء كانت قراءات جيولوجية أو نباتية أو حتى قراءة الفضاء من فوقنا الذي أخاله أكبر شاشة عرض تلفزيونية تعج بالمناظر والصور والألوان سواء في العتمة أو النور، أوفي الغروب أو البكور، وشاشة الفضاء هذه جديرة بأن نمنحها دقائق من أوقاتنا مستلقين على ظهورنا على الأرض وأيدينا تحت رؤوسنا نقرأها ونتأملها ففي ذلك عبادة وراحة نفسية، فضلاً أنها ستوحي لك بالأفكار وتأخذك إلى فضاءات الخيال والجمال. كثير من الناس ربما يرون هذا الجمال وهذا المكون الطبيعي أمامهم، لكن يبقى التفاوت بينهم وذلك راجع في تقديري للكم المعرفي لدى كل شخص وللمرجعية التي ينطلق منها بناء على ما تلقاه في رحلة حياته المعرفية، فمعرفة خصائص الأشياء والمخلوقات سواء كانت أشجاراً أم أحجارًا أو حشرات أو أي شيء آخر من مكونات الطبيعة تختلف إزاءها درجة الاستمتاع من شخص لآخر. فمثلاً ربما ينظر شخصان إلى حشرة مثل حشرة (الرعاش) فيرى أحدهما جمالاً عجيباً وتدخل عليك بهجة وسروراً بينما قد لا يراه الآخر، وما ذاك إلا لأنه الأول يمتلك مرجعية علمية عن تلك الحشرة كونها تعد هي من أوحى لعلماء الصناعات الحربية بأنظمة الصواريخ المضادة للطائرات مستفيدين من قدرتها على التمويه على فرائسها، واستخدامها النظام الراداري، وكذلك الإفادة من حركة إقلاعها وهبوطها واستدارتها للخلف في أنظمة هبوط واقلاع الطائرة العمودية، ويتذكر أيضاً ما يعرفه عن طريقة هجرتها الطويلة عبر القارات على الرغم من صغرها وضآلة حجمها، وكذلك دورها البيئي إذا عُلم الدور الذي تقوم به من القضاء على الحشرات الضارة التي تعيش فوق المستنقعات كالبعوض وغيرها، وطريقة تزاوجها وهي محلقة، فقد تكون هي من أوحى إلى صاحب فكرة تزويد الطائرات الحربية بالوقود أثناء التحليق. فالخلفية العلمية عن هذه الحشرة تجبرك على رؤية الجمال فيها فتقف إزاءها مشدوها متأملاً ومستمتعاً بها، بينما لم تُتح للشخص الآخر كل هذه القراءات وبالتالي لا يرى أي جمال فيما يشاهد فقط هي أمامه حشرة طائرة فقط. كما يمكننا قياس ذلك على كل مكون طبيعي، فمعرفتك بخصائص النباتات والأشجار والقيمة الغذائية والطبية وحتى طريقة حياتها كتلك التي تعيش لمئات السنين، وتلك التي لا تجود بالأزهار والنظارة إلا إذا كانت خارجة من صخر جرانيتي صلد وفي بيداء مقفرة، يكون مدعاة للدهشة، وفرصة لبناء المعارف ومحاولة الإفادة من هذه الخصائص فيما يتعلق بخدمة الإنسانية وعمارة الأرض. *باحث تاريخي