عندما يلتقي رسامون عراقيون من "الداخل" رسامين عراقيين من "المنفى" في معرض واحد، ترتسم صورة ما عن واقع الفن التشكيلي العراقي "المقيم" و"المنفي". هنا قراءة في خصائص هذا اللقاء انطلاقاً من معرض اقيم في المنامة. لا يكاد يمضي أسبوع من غير ان تطالعنا معارض شخصية أو جماعية لفنانين عراقيين في بغداد كما في مدن عربية وأوروبية، تبعاً لانتشار هؤلاء في أمكنة مختلفة، حتى بات هذا النشاط الموزع على خريطة العالم من الأمور اللافتة، ومما يدعو الى متابعة موسعة وحثيثة للإحاطة بالنشاط الإبداعي المتواصل للأجيال. وكان من نتائج انتشار الفنانين العراقيين، وازدياد الطلب على أعمالهم بعض الإيجابيات والكثير من السلبيات. ولعل أبرزها ظهور "دكاكين" في بعض الدول العربية تتاجر بهذا الفن، بعدما تحول الى سلعة خاضعة لقانون العرض والطلب. وإزاء هذه الصورة المشوشة، التي يسهم في تفاقمها غياب صحافة فنية مدركة، تأتي بعض المحاولات لإبراز الوجه الأصيل لمستوى الفن العراقي، وتقديم الطاقات الجديدة التي يمكن ان تعد امتداداً طبيعياً لهذه الحركة العريقة. والمعرض الذي أقيم اخيراً في "دار البارح" في المنامة، والذي ضم اعمال ستة فنانين شباب، يعد من المحاولات الجادة الهادفة الى تأكيد نسب هذه الأعمال الى الشجرة الوارفة الممتدة، وهي تحمل ثمار ما امتصت من نسغ تراثها أولاً، وتؤكد أصالة تجاربها الفردية ذات البعد الرؤيوي والفكري. هؤلاء الفنانون الستة، وجلّهم يقيمون في بغداد، اختارهم وقدّمهم الفنان ضياء العزاوي، وساهم معهم مساهمة رمزية بعرض عمل من أعماله الأخيرة، لا لغرض سوى الرغبة في تقويم الصورة التي تكاد تضيع على المشاهد. وسبق للفنان ضياء العزاوي ان حمل بشدة في الصحافة العربية على ظاهرة التزوير التي تلاحق الفنانين العراقيين، وتشوه طبيعة الصورة الأصيلة لتجاربهم. وهو من خلال هذا المعرض يعزز موقفه بتقديم نموذج حي، وذلك ما ذهبت إليه مقدمته التي يقصد بها ضرورة التمسك بموقف متشدد إزاء ما تشهد الساحة الفنية العربية من تخبط، مؤكداً أن ما يبقى في نهاية المطاف هو "العمل الفني ومرجعيته الإبداعية، وهما ما يحتكم إليهما المتابعون لهذه التجربة من نقاد ومقتني لوحات ومشاهدين متنوعي الثقافة". وانطلاقاً من توجهه هذا يقول العزاوي عن المعرض: "إن هذه الأعمال المنفتحة والمتآلفة مع الأفق الإبداعي للتجربة العراقية، الغنية بروح ثقافية وفنية مغامرة، تشكل حداثتها بتأن، ومن روافد مرجعيات مختلفة تتداخل عناصرها بين الرمز وأشكال تجريدية تشع حرارة، بين المحلي وجماليات إنسانية رحبة لا يحدها تاريخ أو جغرافية، إنها روح فتية عصامية يستبطنها قلق إبداعي لا يستظل بمؤسسة أو سوق تجارية تنشد ما هو مبهرج ومباشر". شمل المعرض أعمالاً لفاخر محمد، وكريم رسن، وضياء الخزاعي، وغسان غائب، وجميعهم يقيمون في العراق، ونزار يحيى مقيم في قطر وسامر أسامة مقيم في عمّان. ومع ان أعمالهم تمثل آخر ما توصلت إليه تجاربهم الفنية، وتشترك في إطارها العام، إلا أنها تعكس رؤى مختلفة، ومعالجات متنوعة، وتكشف عن المعالم الواضحة لشخصية كل فنان منهم. تكاد المدينة، بلا شك، تكون محور الأعمال المشاركة هنا، سواء أكانت ظاهرة في أجزاء متناثرة مبهمة، أو بصورة مجردة دالة. يمثل الفنانون المشاركون في هذا المعرض جيلاً ممتداً من السبعين الى الثمانين، تبعاً للتصنيف الزمني، بدءاً بالفنان فاخر محمد 1954، الذي اتسمت اعماله منذ نحو ما يقرب من عشرين عاماً، بالبحث في مفردات عالم الريف والمشهد الطبيعي. غير ان متابع تجربة هذا الفنان منذ ظهورها في المعارض الجماعية حتى اليوم، يمكنه ان يلمس التحول الجذري الذي مرت به اعماله. ففي بداية حياته الفنية كان فاخر يصور المشهد الريفي بفضائه الممتد، والتداخل الحميم ما بين الإنسان والأرض. ومع ان هذا التداخل ظل يشكل هاجساً يلازم الفنان في تجاربه اللاحقة، إلا انه تحول تفاصيل صغيرة تمثل عناصر الطبيعة تمثيلاً يوحي بشيء من العفوية، ولا سيما في تصويره المفردات الحية لعالم النهر. وظلت ألوانه المصاحبة تلك المرحلة ألواناً غنية بالأخضر المشع، والتضاد اللوني الحاد. غير ان ما قدمه في المعرض يشير الى تحول جديد مفارق الى حد ما. فألوانه البنية، بدرجاتها، كانت السمة الغالبة على أعماله الخمسة. والضربات اللونية التي التفت دوائرها لتخفي ما تحتها من تفاصيل المشهد، تؤكد ابتعاده من موضوعاته الأثيرة السابقة، لتقترب من اجواء المدينة وقد خيمت عليها العتمة والتشويش، وهي تترك لدى المشاهد انطباعاً عن روحها المحايدة، واستسلامها الكئيب. وعلى النقيض منه تماماً تأتي اعمال ضياء الخزاعي 1955 مبالغة في ترفها اللوني وبهرجتها، وعناصرها البيئية، وتظهر فيها الدراجة الهوائية، كما لو كانت رمزاً لبهجة طفولية، او احتفاء بدورها الأثير خلال ايام الحرب. ولعل من أهم تجارب هذه المجموعة، اعمال كريم رسن 1960، فهي تثبت يوماً بعد يوم، مدى تواصل هذه التجربة في بحثها البصري والفكري. فأعمال كريم رسن التجريدية مواد متنوعة على خشب، تستلهم من البيئة رموزها التاريخية، وموروثها الشعبي، وحسها الموغل في اعماق الزمن. ومع أن أعمال كريم رسن تسير ضمن مسار تجربة الفنان شاكر حسن آل سعيد، إلا أنها ترسم لنفسها نهجاً مستقلاً في بحثه التاريخي والدلالي. وللوحة كريم رسن سحرها الأخاذ، فطلاسمها المستلة من الإشارات الرمزية لحضارات العراق المتعاقبة، تطل من خلال المعالجات التقنية، والألوان الأرضية التي تحمل في ثناياها احساساً عميقاً بالزمن، كما توحي بالتراكم. وفي هذه المجموعة من الأعمال المشاركة في المعرض، كان من الملاحظ ان تكويناته المطموسة تحت غبار الأزمنة توحي بوجود مدن هاربة، أو غام وجهها، وإن ظلت شواهدها قائمة تتراءى من بين الضباب. يظل اعتناء هذا الفنان المرهف بالتفاصيل الجمالية، واكتمال جوانب اللوحة التقنية والتعبيرية لديه، هو ما يجعل تجربته تقف مع صفوة تجارب الفنانين العراقيين اليوم. الفنان الرابع المشارك في هذه المجموعة هو غسان غائب 1964، وتأتي أعماله في المعرض لتعلن عن تجاوز ملموس لتجربته السابقة. فهو هنا يلجأ الى استخدام ضربات حرة عريضة من الأسود الذي يظهر جاثماً بقوة على واجهة الصورة مخفياً تحته، أو تتخلل ثنياته أشكال متداعية تمنح وجهها حيناً، وتتخفى في معظم الأحيان، وهي اشكال توحي بوجود مسحة باهتة لمعالم عمرانية. ويكاد المشاهد أن يرى، من خلال تطلعه الى لوحات غسان مجتمعة، ان هذه الملامح المتكررة انما هي مشاهد تحتوي على ملامح الدمار والتداعي. غير ان ما يحجب عنها الرؤية بعض الشيء تلك الضربات العريضة السود، وإشارات الغضب والاحتجاج التي تتفجر فوق سطحها المستوي. ويحاول نزار يحيى 1963 ان يعالج مفهوم المسافات معالجة تجريدية دلالية. فلوحاته تعكس حقولاً من ألوان أرضية، وبتكوين مجرد لا يحيل الى أية مرجعية معينة، فهو يوحي للمشاهدين برحابة لا حدود لها، من خلال طريق يبدأ من نقطة ويمضي نحو أفق لا عودة منه، أو من خلال أطر لا يطل من داخلها غير فضاء فارغ: مربعات ومستطيلات تتداخل بتدرج لوني يشتبك فيه الظل والضوء فيؤكد في مواطن العتمة قتامتها، ويكشف في المناطق المضيئة عن انغلاق أفقها، وفي كلتا الحالين تشير لوحة نزار يحيى الى معضلة المكان من دون ان تفصح عنها. أما أعمال سامر أسامة 1964 فهي تكشف عن مساره التجريبي، أسوة بالأعمال المشاركة، غير ان تجربته تنحاز الى التقنية، وهوس البحث في المادة اكثر مما تهتم بمشكلة التعبير، كما عند رفاقه. والجديد في تقنية سامر في هذه التجربة العراقية الشابة، إدخاله مادة الرصاص الغرافيت على اللوح الخشب، وتحقيق توازن هندسي بين الخطوط المكونة للوحة، والسطوح الكبيرة التي تتقاطع فوقها شرائط من هذه المادة الصلبة. تتميز هذه الأعمال بروحها التجريبية، وابتعادها من فنون التصوير، والاستعارات اللونية، في الوقت الذي تحاول ان تعكس فضاء كونياً ذا وجه معدن. لم يكن الإبداع الفني في عصر من عصور العراق مجرد ترف او عمل تزييني حتى وإن بدا عليه ذلك، وإنما كان على مدى التاريخ وسيلة تعبير ومجال تأمل وممارسة حرة لتجليات الوجود الإنساني. وهذه معادلة يبدو الحفاظ عليها في هذا الزمن امراً غاية في الصعوبة.