كثيرٌ منّا مسرفون خاصةً في الطعام!.. وطريقة تناوله قد تفسده وتتعب الصحة لدى كثيرين.. وخاصة في (رمضان الكريم) إذ تتعب ربة البيت في إعداد الأطباق وبعض الرجال يكتفي بتكشير الأنياب.. وبدل أن يشكر الله ثم زوجته يُطلق سيلاً من الانتقاد! خاصة إذا أصابته تُخمة لفرط الازدراد أو هاجت عليه حموضة أو كَبَسَهُ (جاثوم) في النوم بعد السحور وقد صار (بطنه كُبر بطن أمه قبل أن تلده بساعة) ومع كل هذا يبقى نصف الطعام للمزابل لأنه لم يعُدْ صالحاً مع الأكل الجماعي من طبق واحد تُشرّق فيه الأيادي وتُغرّب! حتى في كثير من الولائم يُقدّم ضعف حاجة المدعوين، وحين يتناولون الطعام من الأطباق الكبيرة جماعيا وبالأيادي لا يعود نصفه الباقي صالحاً لأي جمعية خيرية! ولن أنسى وليمة كبيرة حدث فيها مايصوّر الهدر المذموم والطريقة غير السليمة في تناول الطعام عند بعضنا، فقد (قلطنا) على (تبسي كبير عليه مفطح كامل) ونحن أربعة فقط، وأعيد مارأيت لعلنا نعدل السلوك! كنت بين شايبين تجاوزا السنين السبعين لكل واحد منهما نابانِ بارزانِ في فراغ، ولكن أي ناب؟ «مخراز ما صادف راحِ» ولهما أظفر كمخالب الأسود، أخذا يضربان في الخروف المسكين كذئبين جائعين، واعتبراني بينهما (ترانزيت) كأنْ لم أكن، يتعاونان على تفصيخ (المفطح) ويداهما تمران فوقي، يقول الأول للثاني (أَمْسك) فيرد (مسكْنا!) لم أرَ في حياتي مثلهما في سرعة الوصول لأطايب اللحوم المدفونة تحت الشحوم، يرفع الواحد منهما قطعة اللحم الكبيرة الطيبة تقطر شحماً ثم يوليها مخرازه الحامي، ويطحنها بحباكه طحن الرحى ويزدردها بسرعة البرق ويعودان لموال (أمْسِكْ، مِسَكْنا) وقد شمَّرا عن ساعديهما وغاصا بأظفرهما الحادة حتى قشّرا (المفطّح) كما تُقشَّر حبة (اليوسفندي)، لا يعنيهما ما يتناثر منهما على بقية الآكلين كأنهم غير موجودين، ولا يقتصران على ما يليهما بل يُشَرِّقان ويُغَرِّبان في التبسي ولحم الخروف الكبير كما يريدان.. تغر أحدهما بقوة و (صَيْوَر) بعينيه وصغّرهما يدقّق النظر في الخروف ثم أدخل يداً كالساطور تحت فخذ الخروف فأخرج (الكلية) كاملة وقال بها في مضغة، وسبقه الثاني إلى الأخرى وفعل مثله (ما فيه حد أشطر من حد) ثم تناظرا وهجما على رأس الخروف فرفعاه ومسكاه من الجهتين وكسرا الفكِّين بغلظة فظهر لسان الخروف يتدلّى (الآن هو المراد وهو الطلب) دسّ يده إلى أصل اللسان وقطعه من (لغاليغه) ومدّه لصاحبه صارخاً (أمسك) فجزراه نصفين كل نصف تم ازدراده في غمضة عين.. تجشآ في وقت واحد ثم واصلا الهجوم، رفعا كرشة الخروف، أمسكاها من الجانبين، قطعاها بأيديهما اللتين تقطران بالدهن واللعاب، أمعنا في كرشة الخروف تمزيقاً حتى عادت أوصالاً، تكرّما علينا لأول مرة بقذف قطع من الكرشة في مآكلنا.. هدايا!!.. ورأيت قطعة الكرشة نفسها داخل فم الشائب والنصف الآخر سائباً يتدلى على فمه يستلحقه بالتدريج كأعواد (المكرونة).. أول مرة يشعران بوجودنا بدليل إتحافنا بقطع صغيرة من الكرشة!.. وطالما أتحفانا بقطع كبيرة متناثرة من أيديهما العجلة الطويلة إذ يتساقط على مكان أكلنا ما تطاير من أيديهما الكريمة وأفواهما الكبيرة من بقايا صغيرة أو كبيرة حسب التساهيل فليس للضيوف الآخرين وجود أو مكان (أنا ومن بعدي والطوفان).. المفطح الذي ازدردا أطايبه مع الشحوم السائبة يكفي لقتل شاب بالكلسترول لو كان كلام الأطباء دقيقاً، لكنهما - ما شاء الله - فوق السبعين يُقدّمان الشحمة على اللحمة ويزدردان ما لذّ وطاب بمضغ وبدونه وبلا حساب.. بعد الأكلة الدسمة جلسنا لشرب الشاي، تعمّدت أن أجلس قربهما، قال الأول للثاني: (لحمهم أسود) رد (ورزهم ما استوى يبي يحثل في بطونّا) جاوبه (الله لا يجزى من طبخ الأكل خير.. رز حَبّ ولحم أسود).. ولم يكن اللحم كذلك ولا الرز كان الطبخ غاية في الإتقان واللحم طري غضّ شهي ولكنهما شبعا الآن من الطعام وما بقي إلا الانتقاد. .لعلّ أمثال هؤلاء قلة ولكنهم موجودون، وهم يُفسدون الطعام على من يجلس معهم بما يتناثر منهم، ويتركون التباسي كأنها بقايا معركة طاحنة لا تصلح لجمعية خيرية ولا غيرها.. الأكل بالطريقة الحديثة أفضل: كل مدعو كريم يغرف من الطبق الكبير في طبقه الصغير كما يريد ويأكل في طبق مستقل ولا يقزز المجاورين بما يَنْثره عليهم وبنفض يده على الطعام، ثم إن ما يبقى لم تمسسه يد قط فهو صالح للجمعيات الخيرية.. وداعاً (للبساط) (والسماط) و(التباسي الكبار) والأكل الذي تتخالف فيه وعليه الأيدي حتى يصير ما يبقى للجمعيات الخيرية من ولائمنا الكثيرة نظيفاً شهياً لم تمسسه يد إنسان.. وليس (الفضلات والبداد).