ظل نظام الملالي في إيران، وعلى مدى أربعة عقود، يردد شعارات متعصبة تجاه الولاياتالمتحدة الأميركية من قبيل "الموت لأميركا" و"الشيطان الأكبر"، حتى اعتقد البعض أن السياسة الإيرانية تقف على طرف النقيض من الاستراتيجية الأميركية في المنطقة. ورغم أن البيئة الاستراتيجية الحالية تقطع بوجود تحول استراتيجي حيال إيران من طرف صانع القرار الأميركي في واشنطن، خصوصا في ظل الانسحاب من الاتفاق النووي مع طهران، وكذا تداعيات مؤتمر وارسو الأخير، فإن الوقائع التاريخية تقطع بوجود تحالفات استراتيجية تم إبرامها "تحت الطاولة" بين الولاياتالمتحدة الأميركية ونظام الخميني قبل الثورة وبعدها. هذه الحلقة تحاول البحث في مناطق الظل من أجل الوقوف على حجم التنسيق الأميركي الإيراني على عهد المرشد الأعلى للثورة الإيرانية روح الله الخميني، وهو ما يفضح الشعارات التي رفعها نظام الملالي في إيران في وجه الولاياتالمتحدة الأميركية، والتي يبدو أنها كانت موجهة للاستهلاك المحلي والإعلامي بعيدا عن الانضباط الاستراتيجي لنظام "الولي الفقيه". تاريخيا شكلت إيران محورا جيوسياسيا مهما لواشنطن، والتي راهنت، منذ بوادر نهاية الحرب العالمية الثانية، على تبعية إيران لها لاعتبارات استراتيجية، لخصها "إدوارد ستيتينوس" القائم بأعمال وزير الخارجية الأميركي، في مذكرة مهمة بعث بها للقائم بالأعمال في طهران يقول فيها: "إن وزارة الخارجية تدرك الأهمية المتزايدة لعلاقات الولاياتالمتحدة مع إيران، وهي على استعداد أن تلعب دوراً أكثر نشاطا وإيجابية في الشؤون الإيرانية بما يتخطى ما كان ممكناً أو لازماً في فترة ما قبل الحرب". وتذكر الوثيقة مجموعة من المميزات التي تدفع الولاياتالمتحدة الأميركية نحو ربط تحالفات براغماتية مع طهران لعل أهمها أن "إيران اعتبرت حقل تجارب بالنسبة لميثاق الأطلسي، بالإضافة إلى قدرة إيران "المستقرة" أن تساهم في خلق منطقة أكثر استقرارا، بالإضافة إلى حماية وتعزيز المصالح القومية الأميركية، وهذا يشمل إمكانية المشاركة بشكل أكبر في تجارة إيران وتنمية ثرواتها والإفادة من الموقع الاستراتيجي لإيران، والذي يسمح، حسب الوثيقة، بإنشاء قواعد جوية مدنية، والأهمية المتزايدة لحقول البترول الإيرانية والعربية. وإبان مرحلة الحرب الباردة، لم تكن الولاياتالمتحدة الأميركية، لتسمح بأن تصبح إيران فضاء حيويا للاتحاد السوفييتي الذي كان يرى في إخضاع أفغانستان مرحلة تكتيكية لدخول إيران وبالتالي الحصول على منفذ بحري على الخليج العربي والمحيط الهندي. ولعل الصراع على إيران وصل قلب العاصمة طهران حيث كانت تقف سفارتا القوتين العظمتين كنقط استراتيجية للتطاحن الجيوستراتيجي بين الدولتين. مؤشرات التقارب رغم أن الولاياتالمتحدة الأميركية وافقت على استقبال الشاه لظروف وصفتها ب"الصحية والإنسانية"، إلا أن واشنطن سعت، ومباشرة بعد ظهور أولى المؤشرات على نجاح الثورة، إلى ربط الاتصال بالحكومة الثورية الجديدة، وهو ما تؤكده الورقة التي كتبها "هنري بريشت" مدير قسم الشؤون الإيرانية في وزارة الخارجية الأميركية والمؤرخة بتاريخ أغسطس 1979، حيث طرح من خلالها ثلاثة أسئلة جوهرية: * ما هي الظروف الجديدة التي قد تبرر إدخال تغيير على موقف الولاياتالمتحدة؟ * ما هي الذرائع التي يجب البحث عنها للشاه ولوزارة الخارجية قبل ذهابه إلى هناك؟ * وما هي الترتيبات التي يجب اتخاذها بالنسبة لموظفي السفارة حتى يمكن القيام بحمايتهم؟ (محمد حسنين هيكل، مدافع آيات الله الخميني، ص 28) انطلاقا من هذه الوثيقة يتبين بداية تغير موقف الولاياتالمتحدة اتجاه نظام الشاه، بما يتوافق ومحددات البيئة الاستراتيجية الجديدة في مرحلة إيران ما بعد الثورة. 40 عاماً من حكم الملالي.. هل دقت ساعة العودة إلى ما قبل سنة 1979؟ شهادات وإذا كانت الاتصالات أخذت شكلا رسميا وروتينيا بعد الثورة، فإن بعض الشواهد تقطع بأن علاقة الخميني بحكام البيت الأبيض ترجع إلى مرحلة ما قبل الثورة بسنوات، وهو ما تؤكده، على سبيل الاستدلال، شهادة أرملة شاه إيران محمد رضا بهلوي فرح ديبا والتي صرحت بأن "الوثائق واعترافات بعض المسؤولين الأوروبيين أثبتت أن الغرب هو من أوصل الخميني إلى السلطة في إيران". وأضافت أرملة الشاه، في حديث لإذاعة "راديو فردا" الإيرانية، أن الأسرة الحاكمة حصلت على وثائق تثبت دعم الدول الغربية للخميني للوصول إلى السلطة. السيدة فرح ديبا لم تقف عند هذا الحد بل قالت: "أتذكر أنه جاءت قوة أمريكية بقيادة جنرال يدعى هيزر وطلبت منا مغادرة إيران خلال خمسة أيام، ولم يكن لدى جلالة الملك (شاه إيران) أي علم بذلك، ثم جاء ويليام إتش سوليفان السفير الأميركي في طهران إلى الشاه وطلب منه مغادرة إيران، لأنه أينما سيذهب في مدن إيران ستخرج احتجاجات ضده وقال إن كل الأمور تقود للثورة". شهادة أخرى، هذه المرة على لسان مجتبي طالقاني ابن محمود طالقاني الذي أشرنا إليه في الحلقة السابقة، يسرد فيها أولى الاتصالات بين الأميركان والخميني حيث يقول: "أثناء تلك الأحداث، وعشيّة الثّورة راح الأميركيّون يبحثون مع الجنرال "هايدر" عن مخرج بعدما وصلوا إلى قناعه أنّ الشاه قد انتهى. رجّحوا الخميني وبازركان بديلاً للشاه من أجل ألا يكون هناك أيّ تغيير حقيقي، وكانوا يعتقدون أنّهم بواسطة الإسلاميين سوف يستكملون الحزام الأخضر حول السوفيات من جنوبإيران، وأنّهم من أفضل القوى المرشّحة لقمع اليسار في إيران والحيلولة دون شراكتهم في السلطة". ونرى أنفسنا نميل إلى هذا الطرح على اعتبار أن الولاياتالمتحدة الأميركية راهنت على القوى الدينية كأعداء إيديولوجيين للنظام الشيوعي السوفييتي، وبالتالي فلا شك أن واشنطن اعتبرت ثورة الخميني "هدية من السماء" ستساعدها ولا شك في مد نفوذها في الداخل الإيراني. هجوم السفارة .. تنسيق مشترك!! وفي سياق آخر، ربما تواترت الروايات في اعتبار حادث الهجوم على السفارة الأميركية في طهران بتاريخ 4 نوفمبر 1979م، والذي قام به بعض الثوار الذين أطلقوا على أنفسهم "أتباع خط الإمام"، تحرك سياسي مدروس للضغط على واشنطن لتسليم الشاه وكذا قطع الطريق أمامها لمنعها من القيام بثورة مضادة لإعادة الشاه إلى منصبه كما حدث سنة 1953م عندما تدخلت واشنطن للقضاء على حكم مصدق وإعادة الشاه إلى منصبه ليعود ويحكم قبضته الحديدية على إيران، ويقضي على التمرد الذي قاده الرمز الديني أبو القاسم الكاشاني والرمز القومي ممثلا في محمد مصدق. غير أن شهادات قيادات ثورية تقطع بأن حادث الهجوم على السفارة تم بتنسيق ومباركة من صقور الحزب الجمهوري وعلى رأسهم رونالد ريغان. وهنا يقول أبو الحسن بني صدر في شهادته لقناة روسيا اليوم "بعد خطف الرهائن مباشرة ذهبت إلى لقاء الخميني وانتقدته على هذا التصرف السيء، وقلت له: كيف باستطاعتكم القول إن خطف بعض الأميركيين كرهائن هو عمل أكبر من ثورة الشعب؟ وقلت له أيضاً: ليس من الشجاعة أخذ سفارة في بلدكم وأخذ الأميركيين كرهائن. الحجة كانت يومها احتجازهم بضعة أيام وعندما تسلمون شاه إيران نسلمكم الرهائن، كان هذا الاتفاق مع الأميركيين، وقبلت ذلك يومها والتقيت يومها وزير الخارجية لذلك السبب، وبعدما أصبحت رئيسا جاءني أحدهم لزيارتي وأعطاني شريطاً مسجلاً، كان السيد بهشتي يتكلم مع المقربين له في الفيلم والقصة أن عملية الرهائن كانت موجهة ضد الرئيس بني صدر وضد الرئيس كارتر، ذهبت لإطلاع الخميني على ذلك وأخبرته عن قصة رئيس مجلس القضاء الأعلى الذي عيَّنه، وقد كان على حق بأن قضية الرهائن كانت لتقوية سلطة رجال الدين أكثر فأكثر لهذا السبب استخدموا الرهائن". يتبين إذن أن عملية احتجاز الرهائن في السفارة الأميركية بطهران، تمت بإيعاز من الفريق الجمهوري في الولاياتالمتحدة الأميركية وتنفيذ من رجال الدين بتوجيه من الخميني رأساً، وهو ما يفسر مناورات الخميني للإبقاء على الرهائن رهن الاحتجاز طيلة 444 يوما، ليتم الإفراج عنهم دقائق بعد الإعلان عن فوز رونالد ريغان في الانتخابات الرئاسية الأمريكية. في نفس السياق، كشفت مجموعة من الوثائق فحوى اللقاءات السرية التي عقدها رضا بسنديده، ابن شقيق الخميني، مع ممثلين عن الحزب الجمهوري الأميركي، حيث جرت أولى هذه اللقاءات بالعاصمة الإسبانية مدريد، ثم عاد رضا بسنديده إلى إيران وطلب مقابلة بني صدر، وقال له إنه كان في (مدريد) وطلب الأميركيون لقاءه، وأعطوه اقتراحات. وقال لبني صدر: إذا قبلتها سوف يلبي (ريغان) جميع طلبات إيران بمجرد وصولهم إلى البيت الأبيض. لقد عقد الخميني صفقة مع فريق ريغان تقضي بلعب ورقة الرهائن الأميركيين حتى يتمكن الفريق الجمهوري من استغلالها انتخابيا ضد غريمه الديمقراطي، ليتم تصوير عملية احتجاز الرهائن على أنها إذلال للولايات المتحدة الأميركية ووصمة عار على جبين إدارة كارتر، ساهمت في إضعاف شعبية الحزب الديمقراطي. فضيحة إيران غيت في الثامن من أغسطس سنة 1985م عُقد اجتماع في البيت الأبيض تم خلاله دراسة فكرة إرسال أسلحة أمريكية من الترسانة الإسرائيلية إلى إيران، وشارك في الاجتماع بالإضافة إلى الرئيس ريغان نائبه جورج بوش الأب ومستشار الأمن القومي روبرت ماكفرلين ومدير وكالة المخابرات المركزية وليام كيسي ووزير الدفاع كاسبار واينبرغر، حيث اتفق الجميع على المصادقة على خطة إرسال إسرائيل للأسلحة إلى إيران وتقوم الولاياتالمتحدة الأميركية بتعويض إسرائيل بأسلحة أمريكية، على اعتبار أن القانون الأميركي يمنع على الولاياتالمتحدة بيع أسلحة لإيران مباشرة. وفي الوقت الذي كانت فيه واشنطن تشتري الاسلحة بأثمنة مخفضة وتبيعها لإيران بسعر مضاعف، نتج عن هذا الوضع فائض كبير في الحسابات الأميركية في البنوك السويسرية، مما دفع الولاياتالمتحدة إلى الاستفادة من هذا الفائض لدفع ثمن السلاح لفائدة مجموعات الكونترا المناهضة لحكم رئيس نيكاراغوا دانيال أورتيغا الموالي لموسكو. وهي نفس التقنية المالية التي تم استخدامها لتمويل المجاهدين الأفغان. لقد أدت قضية إيران-غيت مجموعة من الخدمات لعل أهمها: * رد الجميل للخميني بعدما ساهم في فوز الحزب الجمهوري بعد قضية الهجوم واحتجاز الرهائن في السفارة الأميركية * تمويل المجموعات الثورية في نيكاراغوا * إطالة أمد الحرب بين العراقوإيران إلى غاية استنزاف الطرفين إجمالا يمكن القول، أن العلاقات بين الولاياتالمتحدة الأميركية والخميني لم تتوقف يوما، وهي العلاقة التي استغلتها واشنطن لضرب المخططات السوفياتي في إيران، وكذا الاستفادة من البترول الإيراني، ومن جهة أخرى ساعدت على تقوية نفوذ رجال الدين في إيران، خصوصا بعد الإطاحة بآخر عقبة أمام حكمهم الشمولي والمتمثلة في إزاحة رئيس الجمهورية أبو الحسن بني صدر. في الحلقة المقبلة، بإذن الله، سنقوم بإخضاع البنية العرقية والقومية في إيران لواقع البحث والتشريح، على اعتبار أن الفسيفساء السكانية لإيران تبقى من أهم إكراهات التماسك الاجتماعي في هذا البلد والتي تهدد بانفجار الوضع السياسي والأمني متى توافرت الشروط الذاتية والموضوعية لذلك.