جميع الديانات الكبيرة تملك مواقع مقدسة تزورها بشكل دوري وتحج إليها بشكل سنوي.. تعزز من خلال ذلك هويتها وأحقية وجودها وفكرة الالتفاف حولها.. كان من أهم دوافع الحروب الصليبية ادعاء منع النصارى من زيارة المواقع المقدسة في القدس وبيت لحم.. وخلال المئة عام التالية من صلب المسيح لم تعد فلسطين موقع الحج الوحيد كون المسيحيين أصبحوا يحجون أيضاً إلى القسطنطينية والفاتيكان وأضرحة القديسين المشهورين في أنحاء أوروبا. أما العرب فكانوا يحجون (في الجاهلية) لأكثر من 22 كعبة في أرجاء الجزيرة العربية.. كان لكل قبيلة أو تجمع قبلي كعبة خاصة بها تضع داخلها الأصنام التي تعبدها.. كانت قبائل خثعم وبجيلة ودوس مثلا تحج إلى صنم مصنوع من المرمر الأبيض يدعى "ذو الخلصة" ورد ذكره في حديث نبوي صحيح: "لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس على ذي الخلصة".. (صحيح البخاري/ كتاب الفتن). غير أن كعبة الخليل إبراهيم في مكةالمكرمة كانت أكثرهن شهرة وتقديساً الأمر الذي أثار حسد أبرهة الأشرم فبنى شبيهاً لها في صنعاء أسماها "القليس" ودعا العرب لزيارتها، غير أن محاولته هذه لم تغريهم بالحج إلى اليمن فجهز جيشاً عظيماً لغزو مكة وهدم الكعبة (وتعرفون قصة الفيل). وغني عن القول؛ إنه كلما ازداد تفرع الطوائف والفرق الدينية، ارتفع عدد المواقع والمزارات المقدسة التي يحج الناس إليها.. وهذه العلاقة تفسر ظهور آلاف المواقع الجديدة في القرن العشرين وحده (أشهرها كهوف باتو في ماليزيا وكنيسة لييزيه بفرنسا وقرية فاتيما في أسبانيا وجبل لودوز في البيرو وخليج نودريك في إيرلندا وضريح زافيير في الهند). وحتى يومنا هذا تملك الهند أربع مدن هندوسية مقدسة تستقطب ملايين الحجاج الهندوس كل ثلاثة أعوام. وبحسب كتاب غينيس للأرقام القياسية وصل عدد الحجيج لبلدة ليهباد المقدسة إلى 25 مليون إنسان كأكبر تجمع بشري في التاريخ! أما في إيران فما يزال أتباع زارادشت يحجون (في يونيو من كل عام) إلى عين ماء مقدسة تدعى تشكشك.. والمفارقة أن فتح المسلمين لفارس كان السبب في ظهور هذا الموقع واكتسابه صفة القداسة. فالرواية الزاردشتية تقول إن جيش المسلمين أسر ابنة الإمبراطور يزدجر الثالث وسجنها في كهف خارج بلدة يزد. وأثناء وجودها في الأسر كانت تصلي لزارادشت كي ينقذها فاستجاب لها وشق الجبل ليبتلعها ويفجر مكانها عين ماء مقدسة! وحين تنفجر الفكرة في الدماغ يصعب منعها على أرض الواقع.