تطرقنا في الحلقة السابقة إلى حيثيات تأسيس وتشكل النوايا الأولى للتنظيم السري للإخوان المسلمين في تونس، وعرّجنا على طرق الاستقطاب ومحاولتهم الجدية الانقضاض على السلطة على عهد الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة. كما أصلنا للمحاولة الانقلابية التي خطط لها الجناح السري للتنظيم بزعامة منصف بن سالم والذي سيصبح وزيراً في الحكومة التي أعقبت ما أطلق عليه ب»الربيع العربي» والتي كانت حركة النهضة التونسية تتحكم في دواليبها وتشكل خيوطها. الغنوشي ينعى إرهابيين وحركته تزعم «الوسطية» في سياق هذه الحلقة سنحاول أن نرصد أهم العمليات الإرهابية التي تورط فيها التنظيم، وذلك بالارتكان، كعادة جريدة «الرياض»، إلى شهادات إخوانية من الصف الأول حتى يأخذ الطرح طابعه التوثيقي والموضوعي. وهنا نسجل أن «النية الإرهابية» للتنظيم كانت حاضرة عند قيادة الجهاز السري، حيث نورد ما قاله منصف بن سالم في مذكرات حين اعترف بأن «اختيار رد الفعل العنيف بما في ذلك استعمال السلاح بدأ بمرور الزمن ينمو في أذهان الكثيرين وتفاقم الوضع.. قصد إجبار السلطة على تراجعها أو تغيير رأس النظام بأي وسيلة كانت بما في ذلك الوسائل الأمنية والعسكرية التي تتاح لنا» (ص 43). وعلى عادة تنظيم الإخوان «المسلمين»، فقد كان التحضير لعمليات إرهابية يتم بتشجيع وحماية من دول غربية وفيما يلي نسرد أهم الأحداث الدموية التي تورطت فيها حركة النهضة التونسية: 1-حادثة باب سويقة تمثلت الجريمة الإرهابية المعروفة إعلامياً ب»حادثة باب سويقة» في قيام عناصر من حركة النهضة باحتلال مقر خلية للحزب الحاكم في قلب العاصمة وشد وثاق حارسي المقرّ ثم سكب مادة حارقة على جسمهما أودت بحياة أحدهما وبقاء الآخر يعاني من عاهة مستديمة. وقد اعترف الغنوشي في بيان أصدره من الخارج بمسؤولية الحركة عن هذه الحادثة واعتبر ذلك ردّ فعل على العنف المسلّط عليها. وحول أهداف العملية يقول أحد المشاركين الرئيسيين فيها وهو المدعو صابر الحمروني: «ثلاثة أهداف كانت وراء عملية باب سويقة: الهدف الأول كان الاستيلاء على الملف الذي يضم أسماء أبناء الحركة وحرق كل الأوراق إن لزم الأمر. الهدف الثاني كان رد الاعتبار للإهانة التي تلقاها الشيخ مورو وهو قيادي من قيادات المدينة حيث اعتقلوه يوم 9 فبراير 90 وضربوه. والهدف الثالث أردنا أن نقول لنظام بن علي أنه حتى بشبيبته المدرسية التي تغلغلت في دروسنا المدرسية فإننا مازلنا على العهد وإن أبعدوا قياداتنا فنحن قواعد بإمكانها إن تتحرك وتساهم وأنه فاشل.. فاشل». وحول تفاصيل العملية الإرهابية، يسرد نفس الشاهد الواقعة فيقول: «في الساعة الصفر من يوم 17 فبراير حوالي الخامسة والنصف فجراً توجهت المجموعة التي لم تكن كلها تعرف بعضها البعض بسبب لباس الأقنعة على الوجه إلى المكان، نصفها كان يحمل شارة حمراء وهي المكلفة بدخول مقر لجنة التنسيق، والبقية الشارة الخضراء للحراسة على أن لا تدوم العملية بضع دقائق وفعلاً تم إنزال حارسين إلى الباحة السفلية بالمكان وصعد محمد الهادي الذي تولى سكب البنزين صعوداً عبر المدرج.. لكن فجأة، والعملية لم تدم بعد دقيقتين، فوجئ و(م ر) بالنيران تشتعل بالمكان رغم أنه لم يشعلها مع سماع دوي انفجار فلاذ الجميع بالفرار بعد إصابة بعضهم بحروق». ويمكن القول إن مجموعة باب سويقة كانت عبارة عن «خلية نائمة» بالمفهوم الحالي للمصطلح، حيث تشبع أفرادها بالفكر الإخواني المتطرف عن طريق متلازمة «الاستقطاب/ التجنيد» والتي تجيدها الجماعات الإرهابية وتبدع في إتقانها، قصد تشكيل خلايا غير نشطة تشكل في الغالب قوة ضاربة يتم اللجوء إليها في مثل هاته العمليات الإرهابية. هذه الخلايا يتم تلقينهم باستمرار مناهج الغضب والسخط على الدولة من خلال الجلسات الأسبوعية التي تخصص لدراسة الكتب التي يتناولها التنظيم باسم الدعوة، رغم أنها، في حقيقة الأمر، نصوص للتعبئة والتجييش. وحول نفس الحادثة يعترف المنصف بن سالم بارتكابها محاولا، عبثاً، إيجاد المصوغات الشرعية والموضوعية لها، حيث يقول: «جاءت حادثة باب السويقة في 17/02/1991.. أستنتج مما سبق أن العملية تمت كما يلي: فعلاً هاجم بعض الشباب مقر لجنة التنسيق الحزبي على الساعة الخامسة لأنها كانت مقر جمع المعطيات والمعلومات على تحركات التيار الإسلامي (عبارة عن داخلية موازية)، وفي ظرف دقيقتين صبوا البنزين وأضرموا النار وانسحبوا لأن مركز الشرطة قريب والأعوان متواجدون بكثافة فيه». (ص 62) أما راشد الغنوشي أمير التنظيم والمراقب العام للتنظيم الإخواني في تونس فنجده يحاول، من خلال وصف خبيث، أن يساوي بين الضحية والجلاد حين يقول: «هذا الحادث الأليم الذي ذهب ضحيّته ثلاثة تونسيين على الأقل، حارس أحد مقرات الحزب الحاكم وشابان نفذ فيهما حكم الإعدام رحمهم اللّه جميعا»، ولا يجد حرجاً في الترحم على القتلة لا لشيء إلا لأنهم ينتمون إلى جماعته. ويشار إلى أن التنظيم الإخواني في تونس قام بتجميد عضوية عبدالفتاح مورو لإدانته الشديدة لهذه العملية الإرهابية 2- احتجاز عميد كليّة العلوم بتونس علي الحيلي في فبراير سنة 1981، وعلى شاكلة عمليات الاختطاف التي نشاهدها الآن عند التنظيمات الإرهابية من خلال اختطاف واحتجاز الرهائن (حزب الله الإرهابي نموذجاً)، قام «الإخوان المسلمين» في تونس باحتجاز عميد كليّة العلوم بتونس علي الحيلي، وهي عملية الاحتجاز التي اعترف راشد الغنوشي بمشاركة الإسلاميين فيها، إذ يقول: «بخصوص حدث كليّة العلوم في فبراير كان لأفراد من قيادات الحركة الاتجاه دور ضمن آخرين قد يكون فعّالاً في حجز عميد كليّة ومجموعة من الإداريين وتهديدهم المختبر كلّه بالتفجير». 3-تفجير مؤسسات سياحية في الثاني من أغسطس سنة 1987م، تم تفجير مفرقعات بأربعة فنادق سياحيّة بالتزامن مع احتفالات عيد ميلاد بورقيبة. وقد شارك في هذه العمليّة كل من محرز بودقة وبولبابة دخيل بتحريض من عبدالمجيد الميلي المسؤول عن التنظيم بجهة جمّال بالمنستير، وأسفرت عن بتر ساقي سائحتين أجنبيتين. وعلى إثر هاته العملية الإرهابية أصدر القضاء التونسي أحكاماً بالإعدام شنقاً ضد كل من: محرز بودقة، بولبابة دخيل، علي العريض، حمادي الجبالي، صالح كركر، عبد المجيد الميلي، فتحي معتوق. فيما صدر حكم بالأشغال الشاقة مدى الحياة في حق كل من: راشد الغنوشي وفاضل البلدي. وسجلت هذه الاحكام غيابياً في حق بعض القيادات الإخوانية التي لاذت بالفرار وعلى رأسها صالح كركر وحمادي الجبالي وعلي العريض وعبدالمجيد الميلي وفتحي معتوق. وعن تفاصيل هذه الحادثة، يقول راشد الغنوشي: «وجهت تهمة القيام بأعمال عنف محدّدة إلى شابين صدر بعد ذلك حكم بإعدامهما ونفّذ فيهما رحمهما اللّه». ويواصل الغنوشي تعليقه على هذه الأحكام بالقول: «هما الشهيدان: محرز بودقة، وبولبابة دخيل». وهنا نسجل التقية الخبيثة التي يتعامل بها التنظيم حين يعلن براءته من العملية الإرهابية في الوقت الذي يصف فيه المسؤول عن ارتكابها بشهداء الدين والوطن. 4-التحضير للانقلاب على بورقيبة بتاريخ 06 فبراير 1987، انعقد اجتماع سري في مسكن العسكري أحمد الحجري، ترأسه محمد شمام وحضره كل من المنصف بن سالم وبلقاسم الفرشيشي وسيد الفرجاني وحضرها من العسكريين أحمد الحجري (الملقب بعبد الحفيظ) صالح العابدي (الملقب بيحي) إبراهيم العموري (الملقب بسالم) جمعة العوني (سعد) عبدالله الحريزي (عمار) لزهر خليفة (حسين) وكمال الضيف وتغيّب عن هذا الاجتماع لضرورة العمل الضابطان أحمد السلايمي والبشير بن أحمد. بدأ الاجتماع بتقرير رفعه سيّد الفرجاني عن مهمّته وتقديم الفتوى التي حفظها عن صالح كركر ثم عرض مشروع البيان الانقلابي الذي جاء به من لندن وقد تضمن تطميناً للجيران في المغرب العربي وتطميناً للرأي العام الدولي عن طريق التعهّد باحترام العقود والمواثيق الدوليّة، وتطميناً لرؤوس الأموال على ممتلكاتهم. أما التوصية الأخيرة التي أبلغها كركر إلى المجموعة الانقلابية فهي تتعلّق بضرورة الاستفادة من أسلحة وفرها محفوظ نحناح (المراقب العام للتنظيم الدولي للإخوان المسلمين في الجزائر) على الحدود الجزائريّةالتونسية لتكون عوناً للتنظيم التونسي في مشروعه الانقلابي. لكن هذه المحاولة الانقلابية، وكما أشرنا إلى ذلك في الحلقة الأولى، لم يكتب لها النجاح رغم أنها استكملت كل مراحل الإعداد والتنفيذ، وتم إلغاؤها في آخر لحظة بعد افتضاح أمر العملية الانقلابية من طرف زين العابدين بن علي، الذي قاد انقلاباً صامتاً أزاح من خلاله الرئيس بورقيبة وتولى مقاليد السلطة بناء على الفصل 51 من الدستور الذي يضبط طريقة الخلافة في حالات شغور منصب رئيس الجمهورية. وقد أدى التغيير في نظام الحكم إلى تخلّي «المجموعة الأمنية» للتنظيم عن محاولتها. 5-التكفير: عقيدة إخوانية متأصلة على غرار العقيدة التكفيرية للتنظيم الإخواني، والتي تناولتها «الرياض» بغير قليل من التفصيل في معرض تطرقها للتاريخ الدموي للإخوان المسلمين وكيف أن قيادات التنظيم الخاص كانت تُقدم على اغتيال المعارضين بناءً على فتاوى دينية تقطع بكفرهم، على اعتبار أن الإخوان يعتقدون أن عدو الجماعة هو عدو الله وبالتالي فهو حلال الدم والمال والعرض. قلنا على غرار هذه العقيدة، فإن حركة النهضة في تونس سارت على نفس منوال التكفير والتفجير، ولو ادعت «تقية» الوسطية والاعتدال في مقاربتها للرأي المخالف داخل منظومة التدافع السياسي والحزبي في تونس. في هذا السياق، أصدر التنظيم بتاريخ 02 أكتوبر 1989 بلاغاً هو عبارة عن فتوى تكفر وزير التربية الوطنية آنذاك محمد الشرفي عندما انتقد نصوصاً كانت تُدرس في مادة التربية وحُذفت من البرامج الجديدة في عهده، وأصدروا بلاغاً في جريدة الصباح يكفرونه فيه. مع ملاحظة أنّ مواقع تابعة لنفس التنظيم دأبت بعد 2011 على تكفير الرجل والمطالبة بنبش قبره. مسلسل التكفير لن يقف عند هذا الحد، وحتى يومنا هذا، حيث أكدت كتلة نداء تونس على لسان النائب الطيب المدني، تلقي النائبة فاطمة المسدي لتهديدات متواصلة بالتصفية، آخرها الجمعة 07 ديسمبر الماضي. وأوضح المدني بأن صفحة على مواقع التواصل الاجتماعي تحمل اسم «شباب حركة النهضة» نعتتها بالكفر. ووجه المدني دعوة لمجلس نواب الشعب بالتدخل وحماية النائب فاطمة المسدي، مشدداً على أنّ تهديد النائبة المذكورة يمس من جميع النواب. كما أشار إلى أنّ نداء تونس سيقوم بجميع الإجراءات القانونية في الموضوع مع توجيه وكالة الجمهورية إلى التحرك قصد النظر في جديّة التهديدات وخطورتها. كانت هذه بعض المحطات التي تؤرخ للطبيعة الدموية للتنظيم الإخواني في تونس، والتي كانت آخر حلقاتها التورط في اغتيال القياديين التونسيين شكري بلعيد ومحمد البراهمي، والتي من شأن التحقيق في حيثيات هاتين الجريمتين أن يميط اللثام عن أحد أخطر التنظيمات الإرهابية في تونس، والذي لازال يناور للوصول إلى مرحلة «التمكين» حلم حياة تنظيمات الإسلام السياسي.