انحسار القامات في الوطن العربي وفي كثير من المجالات الإبداعية لم يعد أمراً خافياً.. والظاهرة الشعرية كانت أكثر شمولاً وأوسع نطاقاً، وفي المملكة برزت العديد من المواهب والقدرات في تلك المرحلة، أي مرحلة الخمسينات والستينات من القرن الماضي.. وقع تساؤل الدكتور عبدالرحمن الشبيلي، وهو يصف الأجواء الثقافية في عنيزة في عام 1954م في سيرته الذاتية «مشيناها..» موقع التأمل وهو يستدعي السؤال القديم الجديد. إنه يتحدث عن بروز شعراء ومثقفين أمثال: محمد الفهد العيسى، ومقبل العيسى، وعبدالله الجلهم، وعبدالله العرفج، وعبدالله السناني، وصالح الأحمد العثيمين، وعبدالله الصالح العثيمين، وإبراهيم الدامغ، وسليمان الشريّف، وعبدالعزيز المسلّم، ومحمد السليمان الشبل.. وغيرهم، وذلك في فترة تشكّل الوعي عند شباب عنيزة في الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي. يقول عنهم: «لقد أمكن أن يبلغوا مراتب أدبية متقدمة من الإبداع، مماثله لما بلغها أقرانهم في بيئات ثقافية ناضجة مجاورة كالحجاز والعراق والشام ولبنان، والذي يدعو للملاحظة بالإضافة إلى نبوغهم وعمق تفكيرهم واللغة التي كانوا يصيغون فيها معاني شعرهم وأغراضه، أنهم ظهروا بهذه الكثافة العددية جملة واحدة في محيط ضيق نسبياً، لا تصله وسائل التلاقح الثقافي سوى الإذاعات بعد انتشارها». ويضيف: «أن ظهورهم وبهذه الكثافة في تلك الفترة من الزمن تحديداً، مسألة تحتاج بحد ذاتها إلى دراسة تحليلية ضافية». يتحدث الشبيلي عن ظهور أول نادٍ أدبي وربما في نجد كلها في المدرسة الرائدة «العزيزية» بعنيزة في عام 1955م. وأن هذا النادي ظل يقدم الكلمات والقصائد الوطنية والتمثيليات والمطالبات أيضاً. ويضيف أن المجتمع الثقافي في عنيزة حينها، كان يتداول ما يصدر عن النادي من إبداعات شعرية أو مقطوعات نثرية.. يعايش من خلالها هموم الوطن العربي الكبير، في زمن الصحوة القومية التي تفجرت في ذروة الاحتلال والاستعمار لبعض أجزائه وخاصة في فلسطين والجزائر.. الظاهرة التي تساءل عنها الدكتور عبدالرحمن الشبيلي تكاد تكون ظاهرة عربية بامتياز، فانحسار القامات في الوطن العربي وفي كثير المجالات الإبداعية لم يعد أمراً خافياً.. والظاهرة الشعرية كانت أكثر شمولاً وأوسع نطاقاً. وفي المملكة برزت العديد من المواهب والقدرات في تلك المرحلة، أي مرحلة الخمسينات والستينات من القرن الماضي، وإن كانت حيوية أبناء عنيزة ظاهرة جلية في تلك المرحلة، وما سبقها، فهي المدينة التي ظلت على صلة بالعالم الخارجي من خلال تجارها ووجهائها الذين كان لديهم اهتمامات أدبية تتجاوز محيطها الضيق. في مقال سابق أشرت إلى الرحالة «تشالز داوتي» الذي ذكر أنه وجد في منزلي عبدالله الخنيني وعبدالله البسام في عنيزة مجموعة من الكتب.. تضم بالإضافة للكتب الدينية معاجم وكتباً في الجغرافيا والتاريخ والشعر والأدب.. ومنها موسوعة بطرس البستاني، التي صدرت عام 1875م. وأن جلسات نقاش كانت تعقد في منازلهم لمناقشة الأوضاع السياسية في تلك المرحلة. ومن جهة أخرى، فإن مرحلة الخمسينات من القرن الماضي كانت مختلفة، فقد حملت أفكاراً ورؤى وتطورات في المنطقة العربية، جعلت كثيراً من الشباب في المنطقة الشرقية أو الرياض أو القصيم وفي غيرها.. يتفاعلون مع الأحداث من حولهم.. وكانت وسائل تنمية ثقافتهم الإذاعة والمعلم والصحيفة والكتاب. ولم يكن الشعر إلا وسيلة تطفو عليها مواهب وقدرات كان لها حضور في وعي المجتمع وخاصة بين الشباب، ناهيك أن المرحلة كانت مرحلة حلم بعالم عربي متحرر من الاستعمار وهيمنته، وشيوعاً لثقافة جيل بدأ يتذوق بالتواصل عن طريق الكتاب ومصادر المعرفة أنماطاً جديدة من المعالجة الأدبية والفكرية لقضايا أمته. ولقد مكنت حركة الكتاب والصحيفة الوافدة اقتناء وتبادلاً وقراءة في نمو وعي قومي يستدعي حلماً بالنهضة والتحرر من الاستعمار، ناهيك عما كان لقضية فلسطين من وعي وجداني قوي لدى ذلك الجيل. بيروت ودمشق والقاهرة، كانت مصادر تلك الرؤى، وفيها تتفاعل تلك القضايا ومنها انطلقت عبر شباب سعوديين بدؤوا يتعرفون على تلك الحواضر ويندمجون في ثقافة مجتمعاتها، وينقلون من خلالها وعيهم في تشكله الأول عبر كتاب أو صحيفة أو دعوة. ناهيك أن البيئة المحلية كانت مهيأة لذلك النوع من التفاعل، فالأحلام كانت أوسع من حدود مدينة صغيرة، والجدية في الحياة سمة لافتة، والملهيات محدودة، والثروة والمال يدور في إطار ضيق، فلا مجال لهدير الثروة والمال. الكفاية وحدها كانت الهدف، والبساطة كانت العنوان.. مما جعل الاهتمام بالمعرفة، والبحث عن المزيد من مصادرها، وبروز مواهب وملكات ممكنة. وقد يظن البعض أن البيئة تبقى غير ناضجة لبروز تلك المواهب والقدرات، إلا أن الواقع يؤكد أن البيئة بمحدوديتها كانت حفية بالإبداع، ولذلك برز العديد من الشعراء والأدباء في تلك المرحلة. فتش عن المال وسهولة اقتناصه وتعدد مصادره، وعلو قيمته على ما عداه. فتش عن بيئة تعليمية جعلت التعليم شهادة وظيفة لا وسيلة معرفة. فتش عن تحديات الحياة في تلك المرحلة والاستجابة الكامنة لدى جيل مختلف. فتش عن خبو الحلم القومي بانكسار مذهل وفشل ذريع، فتش عن مجتمع لم يعد يحتفي بكاتب أو شاعر أو مبدع إلا في نطاق ضيق محدود لا يشجع على المضي، وسط اهتمامه الكبير بأشكال أخرى لا تمني عقلاً ولا ترفد ذائقة.. فتش عن ثقافة جديدة بدأت تغير في سلم وأولويات المجتمع. فتش عن تفشي ثقافة الاستهلاك لا استهلاك الثقافة.. فتش عن الإنسان الذي خبا بريقه ليعلو بريق المقتنيات! خط الطوية