منهجية التفكير لدى العقل العربي عندما تُجسَّد الحقيقة أمامه، فإنه قد يتملص منها، مع أن نفيه لا يلغي وجودها، فالحقيقة هي معيار ذاتها. رفض القبول بحقيقة الأشياء يؤكد أن ثمة علة في جوف العقل العربي.. تشبث البعض بصوابية الرأي وعدم التنازل عنه رغم نسبيته، يعد أحد مظاهر الخلل في التفكير، وهو منطق جامد وعقيم. تأمل الردود إزاء قضية جدلية ما، تلحظ تنوع الآراء ونزوعها إلى الرؤية الأحادية التي تكرس مفاهيم الإقصاء والإلغاء. هناك فارق ما بين الرأي الذي يستند على الاعتقاد السائد لدى عامة الناس، في حين أن الحقيقة العلمية هي بناء موضوعي منطقي وتجربة مجسدة. بعضهم أشار كمثال إلى النظرة المبالغ فيها للغة العربية والحضارة العربية والإسلامية، مشيرا إلى أنها تدفع العرب إلى تقويم أنفسهم وحضارتهم تقويماً مبالغاً فيه، بدليل أنه عندما يُتهم العرب بضعفهم وانقساماتهم يعزون ذلك إلى الجهل والتدخل الأجنبي، وليس لأسبابه الحقيقية. رب قائل يرى أن تراثنا العربي قد لا يقبل اندماجا مختلفا، وأنه ضد الرأي الآخر، ويصوره في إطار البدعة والمؤامرة، وقد نتفق أو نختلف في هذا التصور، إلا أن البعض يرى أن السبب الرئيس هو القائمون على هذا التراث، من مفكرين ومثقفين وكتاب، لا التراث نفسه. من الطبيعي أن ينتج عن تلك المواقف سقوط وتراجع في منهجية العقلية العربية، فضلا عن عزلة ثقافية اجتماعية، وفي هذا تفسير لبقائها في موقع المدافع لا المهاجم، ما يصيبها بحالة اختلال توازن، ولذا فهم من يتحمل سبب إخفاقاتهم رغم تبرير فشلهم بإلقاء اللوم على الآخرين. في ظل وجود مشهد عربي تنهشه الأيديولوجيا المتطرفة بكل صورها، المتمثلة في التطرف الديني والفتنة الطائفية والسلطوية السياسية والتمييز العنصري. تجد أن منهجية التفكير لدى العقل العربي عندما تُجسَّد الحقيقة أمامه، فإنه قد يتملص منها، مع أن نفيه لا يلغي وجودها، فالحقيقة هي معيار ذاتها. رفض القبول بحقيقة الأشياء يؤكد أن ثمة علة في جوف العقل العربي، وهي من شوائب موروثه الثقافي على الأرجح، وما يدعم هذا الرأي ما يدور على الخريطة العربية في وقتنا الحاضر. آلية التفكير الصحيحة والارتهان لمنطق سليم يتطلبان معرفة تنويرية. مفكرون نادوا وما زالوا باستيعاب الفارق المهول بين العرب والغرب من حيث المسافة التاريخية وكيفية استيعابها، وشددوا على أن خريطة الطريق لتلك الرؤية وردم الهوة الشاسعة لا بد أن يكونا متزامنين مع منظومة تنوير فكري وتطوير تقني وإصلاح للخطاب الديني لتتسق مع التحولات المجتمعية، مدللين بذلك على مسار النهضة الأوروبية التي استطاعت أن تصل إلى النموذج الراهن بالتمرد على عقلية القرون الوسطى آنذاك. في حين أن آخرين يرون المعضلة تتعلق في المقام الأول بنقد وتكوين وبنية العقل العربي، على اعتبار أنه منتج لهذه الثقافة، التي هي بطبيعة الحال تهيمن على وعي المجتمع. المنتج الحضاري في أوروبا لم يأت من العدم، بل جاء نتيجة إرهاصات وطروحات ونظريات فلاسفة ومفكري عصر الأنوار من فرنسيين وإنجليز، الذين أسسوا لحركة فكرية نقدية في القرن الثامن عشر، مهدت لبناء تصور جديد للمجتمع، يقوم على الديمقراطية والحرية والمساواة، ونادت بالقطيعة المعرفية وفك الاشتباك بنفوذ الكنيسة والاستناد على العقل، ما دفعها إلى تهيئة الظروف لمناخ التغيير. تأثر مسار التاريخ بطروحاتهم، كنظريات جان جاك روسو وجون لوك في العقد الاجتماعي، وديفيد هيوم في علم الإنسان مقابل اللاهوت، ونقد فولتير للتعصبين الديني والسياسي، وأفكار مونتسكيو المناهض للأنظمة الاستبدادية. إضافة إلى تحمل العرب سبب إخفاقاته،م وحضور التأثير الخارجي الذي أسهم بدور ثانوي، هناك سبب آخر هو استفحال الأيديولوجيا، التي قد تفسر سبب هذا النكوص، بدليل أن الشعوب العربية مثلا خلال 70 سنة لم تعد تتحمس لأي ارتباط أيديولوجي رغم جاذبيتها، فما يقوله القوميون والبعثيون والشيوعيون والإسلامويون من شعارات وطروحات لا تختلف عن الفاشية أو فلسفة النازية لارتباطها بالديكتاتورية وكرسي السلطة. لا يمكن للعقلية العربية النهوض إلا بنقد ذاتها، والاعتراف بأخطائها من دون مكابرة، ما يعني إصلاح الخلل بالركون إلى الحوار، وقبول التعددية والاختلاف. عالمنا العربي في حاجة إلى مشروع فكري تنويري، يحترم العقل والعلم، ويفك الاشتباك ما بين المعتقد والعادات؛ لمواجهة الأيديولوجيات المتصارعة، والتيارات المتناحرة، وبما يسهم في ردم الهوة الحضارية مع الآخر. Your browser does not support the video tag.