الشخص المحايد، مع ايماننا بنسبية الأشياء، ينشد بطبيعة الحال معرفة الحقيقة ويقر بها بغض النظر عن محتواها، كونه يستند للموضوعية حين الحكم على الأشياء، بمعنى آخر إنها قراءة عقلية معرفية، لا تمت بصلة بالانطباع او الكرامة او عزة النفس، ومع ذلك هناك من يرى بأن العقلية العربية عادة ما تغرق في التناقض الموجع، لا سيما حين مواجهتها الحقيقة على تجلياتها. ولذا تجسدها الفلسفة بقولها "ان الحقيقة في علاقتها بالتجربة والظواهر الحسية، بمعنى أن المدرك الحسي يتحول في الذهن إلى أفكار، فتصبح الحقيقة هي تطابق الفكر للواقع". على ان حديثنا يقتصر هنا على منهجية التفكير لدى العقل العربي، فهل هو يميل الى التحليل والتركيب والمراجعة بعد انطلاقه من لحظة الحدس، بمعنى انه عندما تجسد الحقيقة امامه وبواسطة عقله فهل له ان يتملص منها؟ نفيه لا يلغي وجودها، فالحقيقة هي معيار ذاتها، مثل نور الشمس لا تحتاج إلى ما يؤكدها. ولذلك فرفض القبول بحقيقة الأشياء يكشف ان ثمة علة في جوف العقل العربي، فهل هي من شوائب موروثه الثقافي؟ على الأرجح، وان كانت الحقيقة هنا تعني الصواب ونفيها هو الكذب ومعيار صدقها هو الواقع. وهذا الحديث يجرنا لاستحضار قصتين تتسقان وفكرة المقال وان سبق ذكرهما من قبل. رفض القبول بحقيقة الأشياء يكشف أن ثمة علة في جوف العقل العربي، فهل هي من شوائب موروثه الثقافي؟ على الأرجح، وإن كانت الحقيقة هنا تعني الصواب ونفيها هو الكذب ومعيار صدقها هو الواقع.. الاولى تقول انه كان "هناك شخصان اثنان يسيران في الصحراء، فرأى الأول جسما اسود يتحرك عن بعد، مشيرا إلى انه غراب، في حين ان الآخر اعترض على ذلك مشيرا بأنه عنز، وعندما اقتربا من ذلك الجسم طار على الفور، فتهكم صاحبه قائلا: الم اقل لك انه غراب، فما كان من الأول إلا أن أصر على رأيه مؤكدا أنها: "عنز ولو طارت". وفي هذا السياق القصصي المثير تنزف الذاكرة، بقصة أخرى مأثورة لطالبين جامعيين كانا ينتميان إلى عشيرتين مختلفتين على عداء شديد فيما بينهما بسبب ثأر وخلافات استمرت عشرات السنين وكان أن تعارف هذان الطالبان، وجلسا ذات يوم يتحدثان عن مدى تخلف قبيلتيهما، وعن مساوئ بعض العادات القبلية، ثم ما لبثا أن تذاكرا كيف أن حربا ضروسا جرت بين القبيلتين بسبب رهان حصل بين شخصين منهما، والذي كان محوره هل يستطيع كلب شيخ القبيلة الأول أن يقفز عن حائط الدار دون أن يمس ذيله حافة الحائط. وكان أن أوعز الشيخ إلى كلبه بالقفز، فقفز، لكن الشيخين اختلفا حول ما إذا كان ذيل الكلب قد لمس حافة الحائط أم لا، فزعم الأول أن ذيله "لم يلمس الجدار"، في حين أصر الثاني انه "لمس". فتنابذا، وضرب احدهما الآخر فشج رأسه وكان ذلك إيذانا بحرب عشائرية دامت عقودا. وبعد أن هدأت قهقهة الصديقين الجامعيين على هذا الجهل القبلي. التفت أحدهما إلى صاحبه وقال: ولكن دعنا من الهزل، فالحقيقة أن ذيل الكلب وقتها" لم يلمس الجدار"، الأمر الذي أثار استنكار الآخر وحماسه للحقيقة التاريخية، فانبرى يؤكد انه بلى قد "لمس"، وما هي إلا لحظات حتى ارتفع الصوتان، وأشرأب العنقان ثم علت القبضتان، فتطايرت على الطاولة صحون وتكسرت قوارير. ويقال إن ذلك كان إيذانا ببدء حرب قبلية جديدة لا نعلم كم دامت". لا نعلم ان كانت هاتان القصتان قد حدثتا او لم تحدثا، وان بدتا مسرفتين في المخيالية والمشهدية، ولكنهما بالتأكيد تحملان في طياتهما حيزا كبيرا من الحقيقة. كون العقلية المنتجة لهما قابعة في أعماقنا كائنة وماثلة في مجتمعاتنا، بدليل تشبث البعض بصوابية الرأي وعدم التنازل عنه، ما يعد أحد مظاهر الخلل، وهو منطق جامد عقيم وبامتياز. ولمعرفة خفايا هذه العقلية وتحليلها، عليك بتأمل ردود الفعل الإنسانية إزاء قضية جدلية معينة، حيث تلحظ تنوع الآراء بشأنها ناهيك عن نزوعهم للرؤية الأحادية التي تكرس مفاهيم الإدانة والإقصاء والإلغاء. وهذا يدفعنا للقول بان هناك فارقا ما بين الرأي الذي يستند على الاعتقاد السائد لدى عامة الناس في حين ان الحقيقة العلمية هي بناء موضوعي منطقي وتجربة مجسدة. وفي هذا السياق، ما أشار اليه أحدهم عن النظرة المبالغ فيها إلى اللغة العربية والحضارة العربية والإسلامية، مشيرا بأنها تدفع العرب إلى تقويم أنفسهم وحضارتهم تقويماً مبالغاً فيه. ولذا عندما يتهم العرب بضعفهم وانقساماتهم يعزون ذلك إلى الجهل والتدخل الأجنبي، وليس لأسبابه الحقيقية. رب قائل يرى أن تراثنا العربي قد لا يقبل اندماجا مختلفا، وأنه ضد الرأي الآخر ويصوره في إطار البدعة والمؤامرة، وقد نتفق أو نختلف في هذا التصور، إلا أن البعض يرى في أن سبب هذه الانتكاسة هو القائمون على هذا التراث، من مفكرين ومثقفين وكتاب، لا التراث نفسه. ولذا من الطبيعي أن ينتج عن تلك المواقف سقوط وتراجع في منهجية العقلية العربية، فضلا عن عزلة ثقافية اجتماعية، وفي هذا تفسير لبقائها في موقع المدافع لا المهاجم، ما يصيبها بحالة اختلال توازن، ولذلك فالعرب هم من يتحملون سبب إخفاقاتهم رغم تبرير فشلهم في إلقاء اللوم على الآخرين. صفوة القول: لا يمكن للعقلية العربية من الانطلاق إلا بنقد ذاتها لا جلدها، والاعتراف بأخطائها دون مكابرة، ووقتها فقط نكون قد بدأنا إصلاح الخلل، بالركون للحوار وقبول التعددية والاختلاف وبالتالي النهوض بحضارتنا، هذا أن أردنا فعلا ذلك!