لما كان السفر والترحال جزءاً من معالم النهضة الأوروبية، منذ تاريخ طرد المسلمين من الأندلس العام 1492م فقد استمر هؤلاء الرحالة في التسابق إلى رحلات الشرق وكان اكتشاف شبه الجزيرة العربية هدفاً رئيساً ومغامرة صعبة بالنسبة لهم وكان من بينهم من جاء لدراسة طبيعة الأرض والنباتات، ومنهم من جاء لدراسة أحوال القبائل والعادات والتقاليد والثقافات، والبعض جاء لتقصي الإمكانات النفطية، ولأغراض سياسية، وهم إما رحالة وباحثون بطبيعتهم أو معتمدون سياسيون يتبعون لدول طامعة، وكان من بينهم أيضاً جواسيس متمرسون، ونساء ذهبن منفردات إلى أرض البادية وعشن حياة الصحراء والترحال بكل قساوتها، كذلك من أرسل لإثارة الفتن وزرعها لأهداف سياسية واستعمارية، أيضاً هناك من جاء لأهداف تبشيرية متقمصاً شخصية طبيب جائل أو حاج مسلم مرتدياً عباءة الورع وهؤلاء هم الذين كتب لهم الفشل الذريع ولم يتمكنوا من تنصير أي فرد من أبناء شبه الجزيرة، كل هذه الأهداف والمخاتلات ما كانت تخفى على ابن سعود الملك المحنك الذي لم تفصله عزلة الصحراء عن حقيقة ما يدور حوله في فلك المؤامرات والأطماع، وبالتالي فقد اتخذ - رحمه الله - جانب الحيطة والحذر في تعاملاته كافة من ناحية، ولكنه في نفس الوقت كان يملك الرغبة الصادقة للإفادة من هؤلاء ومن خبراتهم العلمية لمصلحة بلاده وأمته، وفرض عليه ذلك أن يتعامل مع البعض منهم كصديق، وبالتالي استطاع أن يكسب ودهم وولاءهم حتى نقلوا عنه وعن بلاده الصورة الحقيقية الناصعة، بل إن أحدهم وهو النقيب البريطاني شكسبير أصر أن ينظم مع قوات الملك عبدالعزيز كمحارب في معركة جراب العام 1915م وعندما حاول الملك ثنيه والبقاء في القصيم أو الزلفي لحين انتهاء المعركة أخذ بندقيته وكاميرا التصوير قائلاً: من العيب أن أتراجع وانتهت المعركة بمقتله والعثور على جثته بعد عدة أيام في ساحة المعركة. واتفق أكثر هؤلاء على أنّه الملك الذي تجتمع فيه كل مقومات زعامة العرب كافة في الوقت الذي استفادت منهم المنطقة ومن خبراتهم وعلمهم خصوصاً أنهم جاؤوا في مرحلة صعبة من تاريخ الجزيرة، كانت فيها الأمة منشغلة بلقمة عيشها، فدونوا لنا تاريخ منطقتنا ومراحل نموها الأولية. وحفظوا أو بالأصح رصدوا عادات وتقاليد المجتمع التي نقلوها بكل دقة، وحفظتها مذكراتهم بلغتهم، إلى أن ترجمت بعد ذلك إلى اللغة العربية وأصبحت مراجع موثقة لتاريخ حقبة مظلمة، كذلك التقطوا لنا أجمل الصور الفوتوغرافية، ورسموا الخرائط والدروب، ووصفوا المدن والقرى وطبوغرافية الأرض وتعرفوا على الكثير من آثار جزيرة العرب المجهولة كما حصل أثناء زيارة أعضاء الرحلة الاستكشافية البلجيكية إلى منطقة الجنوب العام 1950م والذين قابلهم بالترحيب وأمر - طيب الله ثراه - بتمويل الرحلة والتكفل بجميع تكاليفها، بعد ما أرسل معهم الإنجليزي المخضرم "عبدالله فيلبي"، وكلفه ليكون مشرفاً ومنسقاً للرحلة ومسؤولاً عن تقديم نتائجها للحكومة السعودية وكتب لهم جواباً رسمياً أذن لهم للقيام برحلة إلى منطقة نجران ومعاينة آثارها والالتزام بتقديم تقرير إلى حكومة المملكة العربية السعودية يتضمن جميع الاكتشافات بما في ذلك الرسوم والصور التي ستنفذ خلال هذه الرحلة، والالتزام بتسليم حكومة المملكة كل ما سيعثر عليه من الآثار القديمة التي يمكن تصويرها، والمنع البتة عن المساس بها أو نقلها وأخذ شيء منها. هذه البعثة المشكلة من مجموعة من خيرة الخبراء والمستكشفين أبهرهم الملك عبدالعزيز بوعيه وبعد نظره ودقة تصوره وهو يعي أهمية مثل هذه الآثار التي دُمر أكثرها أو نهب في عهد الفوضى وليس أدل من "مسلة " أو حجر تيما الشهير الذي اكتشفه الفرنسي هوبير ضمن أحجار بئر "هداج" تيما، وعندما عاد مع الألماني أوتنغ بعد عشر سنوات لنقله إلى أوروبا لم يعثروا على الحجر المقدس وبحثوا عنه حتى وجدوا أحد أهالي البلدة قد أخذه لاستعماله في بناء سور منزله مثل أي حجر لا قيمة له فاضطروا لشراء المنزل كاملاً وهدم سوره وأخذوا منه الحجر الذي نقل إلى هناك ويوجد حالياً في متحف اللوفر بفرنسا كأغلى وأهم الكنوز الأثرية التي نهبت من جزيرة العرب. كما يعد هؤلاء الرحالة أدق وأصدق من وصف لنا شخصية الملك عبدالعزيز وأسلوب تصريفه شؤون دولته ولقاءاته العفوية بأبناء شعبه أثناء قيامهم بزيارته في مكتبه ومنزله، والتقوه وأسرته على سجيتهم وفي الزيارة التي قام بها العام 1937م المفوض السياسي البريطاني في الكويت ديكسون مع زوجته للرياض التقى بالملك عبدالعزيز لقاءً رسمياً استمر لساعتين عندما وجد الملك يجلس على مقعد مرتفع في ركن من الغرفة يطل على الميدان الرئيس أمام القصر، ويحيط به كبار الأمراء والمسؤولين في الدولة يجلس بعضهم على مسافة بعيدة منه في الطرف الآخر وكان ضمن الحضور حاكم حائل الأمير عبدالعزيز بن مساعد وثلاثة من أعضاء بيت آل رشيد، وهم الأمير محمد الطلال والأمير فيصل بن طلال الجابر الرشيد والأمير عبدالله بن متعب الرشيد وابن أخ الملك فيصل بن سعد آل سعود واثنان من أبناء الملك محمد ومنصور وحفيد الملك عبدالله بن تركي واثنان من مستشاري الملك السيد حمزة غوث والسيد شريف الشريف ورئيس تحرير نشرة أخبار الإذاعة محمد جسور. كان ثلاثة من أبناء الملك الصغار كما وصفهم يجلسون جلسة الكبار في كل أريحية في أحد الأركان وهم الأمير طلال والأمير مشعل والأمير نواف، وبعد التحيات التقليدية المعتادة قدمه جلالة الملك عبدالعزيز إلى الحاضرين ثم طلب من ضيفه الجلوس إلى جواره وسأله - كما يقول - بكل مودة وبطريقة مهذبة عن صحته وصحة أسرته وأمر بأن يصحب الخدم الأولاد الصغار طلال ومشعل ونواف إلى خارج الديوان فأقبلوا عليه وقبلوه مودعين فأجلس نواف الصغير وعمره قرابة ثلاث سنوات على ركبتيه دقيقة أو دقيقتين وهو يبتهج، ثم سأله عن الهدية التي يريدها قال نواف: أريد صقراً حتى يتمكن من الخروج للصيد. قال الملك لك ما تريد وقبله مودعاً، ولكن بعد أن جذب الغلام لحية الملك وكرر: أريد وعداً منك يا أبي، وبكل جدية وعده الملك بأنه سيحصل على الصقر وأبلغ رجاله بأن يعطى طلبه ثم خرج الغلمان الثلاثة من الغرفة حينما تحول الملك عبدالعزيز إلى ضيفه بناظريه وقال مجاملاً: أنت يا ديكسون لست صديقنا وصديق العرب.. ولكني أراك جئت اليوم مرتدياً زينا وثيابنا كواحد منا، ولذلك فالترحيب بك مضاعف لينتقل الموضوع بسرعة إلى ما كان يشغل بال الملك وهمه الأكبر في تلك الفترة وهي القضية الفلسطينية حينما عبر له عن عدم رضاه لموقف حكومة بلده من القضية طالباً منه أن ينقل وجهة نظره وإبلاغ الدوائر الرسمية بما سمع على الرغم أن هذه الزيارة هي فقط زيارة ودية واستمر في ذلك ساعة ونصف الساعة حتى بدا عليه كما يقول ديكسون الإعياء والتعب أثناء ما نادى على محمد جسور لقراءة آخر الأنباء التي وصلت بالراديو من جميع أنحاء العالم على الجمع الجالس من حوله ثم صرف ضيفه في مودة ولكن في حزم أيضاً..! غوري: قوته بذكائه وكلامه فيضان لا يوقفه إلا الدعوة للصلاة يقول ديكسون بعد ذلك مستعرضاً بقية لقائه الأول: بعد أن انتهى لقائي بالملك عبدالعزيز أوقفني رسول في الممر وقال إن الأمير سعود ولي عهد الملك يريد مني زيارته في مجلسه. ووجدت مضيفي يرأس محكمة بين حشد كبير يضم شيوخ البدو وغيرهم. واستقبلني مرحباً في حفاوة ودعاني لتناول العشاء معه يوم الأربعاء. ولم يثر ولي عهد الملك أي مسائل ذات طبيعة خاصة. وتحدث سعود في استفاضة عن زيارته الأخيرة لإنجلترا وروح الود التي استقبل بها في كل مكان زاره. ورأى أنه من المناسب أن يذكر أن ثمة شيئاً أثر فيه أكثر من سواه وهو الحب الذي يثير الدهشة والذي يكنه الشعب الإنجليزي لملكه ولأسرته المالكة، والإحساس العميق بالقانون والنظام الذي لمسه هناك في كل مكان، كما أشار إلى العادة الإنجليزية اللافتة للنظر وهي عادة الانتظار في صفوف منظمة أمام الخدمات ومحطات السكك الحديدية حتى المسارح ودور السينما ويرى في ذلك تصرفاً مشوقاً للغاية. كان الملك سعود فيما بعد وفي كثير من مناسباته يرى في هذه العادة مقياساً حقيقياً لمستوى تحضر الأمم والشعوب ومستوى رقيها ويتطلع في نفس الوقت إلى أن يأتي اليوم الذي يرى فيه شعوب المنطقة خصوصاً مملكة والده وقد وصلت إلى هذا المستوى. ونقل لنا المفوض السياسي البريطاني في الكويت جيرالد دي غوري صورة أخرى عن الملك عبدالعزيز أثناء زيارته الرياض العام 1934م وسمح له بالدخول عليه وركز غوري على صفاته الجسدية وشخصيته ومقدار الجاذبية والقبول الذي يمتلكه عندما بدا له الملك عبدالعزيز بقامته البالغة ست أقدام وأربع بوصات عملاقاً كحجم جبل حتى بين رجال الحرس البدو العمالقة المنتقين بعناية كما قال. وشعر لحظتها بعظمة هذه الشخصية النادرة بعد أن مد له يده وشده بقوة ليجلس على يمينه على السجادة الفارسية الصنع، وقد ابتسم وهو يطرح الأسئلة حول الرحلة والطريق، قائلاً: لم أرَ في حياتي ابتسامة طاغية أكثر من هذه الابتسامة "إن لبعض الحكام العرب سحراً طاغياً" وكانت ابتسامة ابن سعود مليئة بالرجولة ولهجته مليئة بالثقة ويتحدث بعربية فصحى يلونها بأقوال بدوية بين حين وآخر. وما أن يبدأ بالحديث حتى يتحول كلامه إلى فيضان لا يوقفه شيء إلا الدعوة إلى صلاة الظهر. إن قوة هذا الزعيم كما يبدو لي في ذكائه الخارق. انتهى لقاؤه الأول، وتم اللقاء الثاني في القاعة الكبرى حيث كانت الأرض مغطاة بسجاد فارسي أحمر في قلب القاعة التي في آخرها كان الملك يقف وحيداً منتصب القامة مثل الرمح وهذه الوقفة الدقيقة كما يقول غوري مثل العسكريين هي عادة الأمراء والنبلاء العرب في استقبال ضيوفهم. كان جامداً شامخاً تتدلى عباءته من فوق كتفه حتى الأرض بتكسرات منتظمة مثل شلال وكان ثوبه بسيطاً أنيقاً ومرتباً بدقة وهو مصنوع من مادة رمادية تأتي عادة من دمشق وتعرف باسم "صدر الحمام" وغترته من الصوف الأسود والقصب الذهبي وهو النوع الذي لا يعتمره في نجد سوى الملك ومن يتشرفون بهدية مماثلة منه، جسمه ضخم متناسق، أنفه بارز لكنه معتدل، ابتسامته عذبة تكشف عن أسنان مرتبة.. بشرته بيضاء حرقتها الشمس كثيراً في الماضي، وفي يده اليمني ندبة من جرح قديم أصيب به في إحدى المعارك كما أصيب في رجله بجرح تتجدد آلامه كلما تغير الطقس إلى البرودة. وهو متحدث متّقد لا يتعب وإذا لم يعثر على جواب من سامعه أياً كان، فإن على معاونيه أن يستمروا في البحث إلى أن يعثروا على الجواب. وتستخدم في القصر عادة الموسوعات والمراجع وليس في الرياض صحيفة لكن الأخبار البرقية تقرأ للملك مرتين في اليوم، أما بالنسبة إلى بعد نظره وحكمته فيقول رجاله: إنه "أسرع من البرق". يتكلم الملك بثقة مطلقة بالنفس وببلاغة أنيقة ويثري كلامه بالأمثال العربية القديمة وأقوال البدو وآيات من القرآن الكريم، وحين يتحدث في أمر دبلوماسي أو سياسي يتكلم عادة بالتفصيل، مثبتاً بالحقائق أمام سامعه بوضوح شديد نقطة.. نقطة إلى أن يصل إلى ذروة القول فينحني قليلاً إلى الخلف ويغير جلسته قليلاً، ويرسم ابتسامة جذابة مهذبة. إن اتقاده ووضوح وجهة نظره أمر يبدو رائعاً في أي مكان. كان معاونوه ورجاله وهو أيضاً يتفحصون جميع القادمين إليه من الزوار بعناية تاركاً زواره ينطلقون على سجيتهم في الكلام بهذا الجو من المآدب السخية والهدايا، غير أن سحره الشخصي وتفهمه يظل أقوى من أي شيء آخر لكل ضيوفه القادمين من داخل وخارج البلاد حتى طافت داره بالمعجبين والمحبين.. الملك عبد العزيز والمفوض البريطاني الملك عبد العزيز رحمه اللّه في إحدى المناسبات الملك عبدالعزيز مع أحد أبنائه الملك عبدالعزيز يصافح طفل أرامكو Your browser does not support the video tag.