«الإعلامي» توصيف لمهنة عظيمة وممارسة احترافية تستدعي أن يكون حاملها ومن تُخلع عليه جديراً بها لكنها للأسف باتت مرتقى لبعض الأدعياء الذين استسهلوا ممارستها دون أن يتسلحوا ببعض أدواتها. وهي الصفة الأكثر جدلية في راهن المجتمع الإعلامي، والمؤرقة أيضاً للمنتمين إليه، لكثرة المتترسين خلفها، والمباجلين بها تنطعاً دون إلمام بأدني مبتغياتها وغاياتها والأدوات الملحة لنيلها. هذه سلوكيات لا يستغربها من يقرأ المشهد بحياديه حيث إن الفوضى تعم الساحة بشكل غير مسبوق. تحدث ل»الرياض» عدد من الكتاب وأساتذة الإعلام، حول تساؤلاتها: كمثقف كيف تقرأ هذا المشهد؟ وبماذا تعلل هذا السطو؟ وماهي الطريقة المثلى لحسر هذا النهم الفارغ؟ وحفظ الصفة الإعلامية من الطارئين عليها؟.. فإلى تفاصيل حديث مسكون بهموم وشجون المهنة. ما الإعلام؟ استهل الكاتب الصحفي مشعل السديري حديثه بعبارة "الإعلام وما أدراكم ما الإعلام؟!، قائلاً: يفترض أنه مشتق من اسمه، أي مرتبط بالعلم والمعلومة ومن ثم بالحقيقة، فهل هو فعلاّ كذلك في عصرنا الحديث؟! ويضيف: إنني اعتقد أنه لم يكن هو هكذا فعلاً لا في عصرنا الحديث ولا في عصورنا السابقة. وأكبر دلالة أن البخاري جمع أكثر من 600 ألف حديث، وبعد التمحيص والتدقيق لم يستقر إلاّ على ستة آلاف حديث صحيح فقط، إذن كانت الطاسة ضايعة، والأكاذيب والإشاعات "على قفى من يشيل". لا أظن أن هناك إعلاماً محايداً، والمنتصر عادة هو الذي يكتب التاريخ حسب مزاجه. كانت وسائل الإعلام في الماضي محدودة، وسلاحها المؤثر هو الشعر، وأول من دخل في مجال إعلانات هو "مسكين الدرامي" في بيت قصيدته: قل للمليحة في الخمار الأسود/ ماذا فعلت براهب متعبد؟!، وبعد ذلك تهافتت حسناوات العراق على بائع تلك الخمارات. أما في القرن العشرين فحدثوا ولا حرج، ابتداء من "غوبلز" وزير إعلام هتلر صاحب مقولة: اكذب اكذب اكذب، حتى تصبح الكذبة حقيقة، وكانت أهم وسيلتين في حينها هي الصحافة والإذاعة، حيث لم يكن هناك تلفزيون ولا إنترنت ولا مواقع تواصل اجتماعي. وفي بلادنا العربية كان لدور إذاعة صوت العرب وبرنامج "أكاذيب تكشفها حقائق" - أو العكس صحيح أيضاً -، كان لها الكعب المعلا في غسل الأدمغة من أي ذرة عقل منطقي. وأكبر دليل أن أحمد سعيد كان يهدر ويقول بعظمة لسانه في صباح يوم 6 يونيو/حزيران أنهم أسقطوا (70) طائرة إسرائيلية وكأنها ذباب يرشه "بالفليت"، في الوقت الذي كانت الدبابات الإسرائيلية على مشارف قناة السويس. وها هو "الصحّاف" وزير إعلام العراق يتحدث للصحفيين أمام وزارته، ويشير بهزيمة "العلوج" الأميركان ولم ينتبه أن الكاميرات تصور الدبابات الأميركية وهي تمر من وراء ظهره. ولا أنسى في وقتنا الحاضر مهزلة إعلام "الجزيرة" القطرية، عندما أكد أن المملكة قد فتحت "300" تأشيرة حج لمسيحيي لبنان، بما فيهم "سمير جعجع وزوجته". مرجعية ومحاكمة بدوره تحدث أستاذ الإعلام بجامعة الملك سعود الدكتور عادل المكينزي قائلاً: بلا شك عندما نتحدث عن مهنة بهذا الحجم تتماس مع الجماهير يجب أن يتصدى لها الأكفاء ويقف على منبرها المبدعون ممكن يكونون على وعي وقدرة ودراية وفهم للمهنة وللمجتمع ولكيفية التعاطي مع الأحداث والكلمة والصورة والمؤثرات لضمان وصولها إلى عقل ووعي المتلقي بشكل سليم ورزين. المجتمعات التي لها باع طويل وتجربة ثرية في ميدان الإعلام يعتمد كل منتمٍ فيها إلى الإعلام بكل وسائله بما فيها وسائل التواصل الاجتماعي إلى مرجعية ومحاكمة أيضاً لما ينشرون في كل هذه الوسائل المتعددة ما يحفظ للمهنة مكانتها واحترامها في الأوساط الاجتماعية والثقافية. ويضيف د.المكينزي: هناك يقظة لمن يحاول ان يسطو على أي مهنة مثل الطب أو الصيدلة أو الهندسة، والإعلام مهنة كذلك لها أخلاقيات وقيم منها الدقة والموضوعية والمعلومة والصياغة، وما يقتضية الرأي والخبر كل على حدة أو في حالة ممازجتهما بما يخدم الهدف ويضفي على المعلومة أبعادها المختلفة لتكتمل مادة مفيدة وثرية للمتلقين ولابد من التنبه لذلك ومجابهته. ويستطرد: الإشكالية الكبرى في الوسائل الحديثة للتواصل هي التشويش وعدم التوازن وخلوها من الطرح الشمولي والاعتماد على الطرح الجزئي الذي قد يؤثّر في اتجاهاته بشكل غير إيجابي وهذا الاجتزاء سبب لضعف المصداقية والموضوعية والحياد والشمولية وحتى الصياغة التي هي أساسات متينة تقوم عليها صفة الإعلام والمنتمين له وخصوصاً الصياغة التي من خلالها يستوعب المتلقي الأهداف ويفهم الأبعاد، واكتمالها بما يشبع نهمه ويلبي رغباته، وأي خلل في أي من هذه المقومات يعني الاتجاه إلى مسارات أخرى ليست من الإعلام في شيء. الطارئون على المهنة الإعلامية يبحثون عن الإثارة لجمع أكبر عدد من المتابعين ويتسببون في هزء المصداقية ويروجون الشائعات التي تأخذ مجراها في أوساط الناس بدون تحرٍ أو بحث، خصوصاً في ظل عدم الرقابة على السوشيال ميديا وأقنيتها المختلفة وهذا يمهد الطريق لهم إلى اختلاق الإثارة واجتزاء ما يثير ومايغلب على الظن أنه سيحقق الإثارة والانتشار. الإثارة رغم أنها سمة وجزء من الفن الإعلامي، ولكن عدم الالتزام بأدبياتها وتجاوزها يخلط الأوراق فتلتبس الحقيقة والشائعة، ويصعب التفريق بينهما وبالتالي يؤثّر على الطرح الإعلامي وقد يحط من قدره وقيمته بطرق لا تخدم المجتمع ولا تحقق الأهداف العليا للدولة. افتئات واستباحة ويؤكد الكاتب والباحث د. زيد الفضيل بأن هذه الحالة أصبحت واضحة للعيان ويقول: للأسف فقد باتت ظاهرة الافتئات واضحة في إطار مجتمعنا المعرفي، حيث لا ترى تخصصاً علمياً إلا وقد انبرى للحديث فيه، وادعاء المعرفة الكامنة به، من ليس له معرفة به أساساً، ولا يملك أدنى وعي بحقيقته بشكل كلي. ومن هذا المنطلق باتت ظاهرة الشهادات الوهمية مستساغة في ثنايا مشهدنا المجتمعي، بحيث لا نرى من يستنكرها أو يبدي رفضاً قاطعاً لمن دخل في ثناياها، انطلاقاً من إيمان عميق بأهمية التزام الصدق وتوخي قول الحقيقة. بل على العكس، نجد الكثير ينساق مع ذلك الوهم، فيُطلق مختلف الألقاب التي استحقها الآخر بوهم وليس بصدق، والمجتمع في فعله هذا يُكرس ثقافة الزيف، وظاهرة الافتئات التي نعاني منها مجتمعياً، وتعاني منها مختلف التخصصات. ومن ذلك مهنة الإعلام، التي باتت مستباحة لكل من أراد سبيلاً. وفي تصوري فإن ضبط مصطلح إعلامي يحتاج إلى إعادة تأسيس لمفهوم الإعلام، الذي انفلت بشكل كبير مع توسع الشبكة العنكبوتية، ليتخيل أبسط مدون مثلاً أنه إعلامي لمجرد نشره لعدد من الأخبار في مدونته، وربما في موقعه الخاص على موقع الفيس بوك أو التويتر، ناهيك عن انفلات مفهوم ما يعرف بالصحافة الإلكترونية، والأهم أن كل ذلك بات مستساغاً ضمن إطار المجتمع باعتبار حالة القبول الرئيسة بواقع الافتئات التي تمظهر في شكل من أشكاله في الشهادات الوهمية. وعليه فالأمر يحتاج من وجهة نظري إلى زاويتين للمعالجة: الزاوية الأولى تقوم على إعادة صياغة منظومة القيم السائدة في المجتمع، بحيث لا يقبل بعد ذلك إلا الصحيح، ويعمل من تلقاء نفسه على رفض كل حالات الزيف، فيكون بمثابة المضاد الأول والتحصين الرئيسي في هذا الباب. والزاوية الثانية من خلال تجويد مختلف الأنظمة الضابطة لمصطلح إعلامي، بحيث لا تطلق الصفة بشكل حقيقي إلا على من مارس مهنة الإعلام في أحد قنواتها الرئيسة المعروفة من صحافة ورقية وإذاعة وتلفزيون، ولفترة زمنية تخوله من معرفة قواعد وأدبيات العمل. وحتى يتم التحقق من ذلك فمن المهم تفعيل هيئة الصحفيين الغائبة، وجمعية كتاب الرأي المتوارية، لتصبح بمثابة الرابطة لزملاء المهنة الواحدة، وبمثابة المرجعية القانونية لإطلاق مسمى الإعلامي علاوة على صفة الكاتب الذي تم استباحته أيضاً للأسف الشديد. مصالح ومفاسد ويقول الأستاذ الدكتور هشام بن عبدالملك آل الشيخ عضو هيئة التدريس بالمعهد العالي للقضاء في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية: ثبت عند البخاري من حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ كَلاَبِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ). قال العُلماء: معناهُ المُتكثِّر بما ليس عنده بأن يظهر للناس أنَّ عنده علم ما، أو خبرة ما، وهو في الحقيقة لا يملك ذلك، يتكثَّر بذلك عند الناس، ويتزيَّن بالباطل فهُو مذمُوم كما يُذمّ من لبس ثوبي زُور. وهذا الحديث ينطبق على ظاهرة متنامية ومقلقة في أوساط المجتمع، ألا وهي: اقتحام عدد من الناس مجال الإعلام بوصف نفسه أنه (إعلامي) ثم يقوم بالتنظير، وبالحديث في الشأن الإعلامي العام أو الخاص دون سابق معرفة، مع عدم حصول أولئك على مبادئ علم التواصل والإعلام، وليس لديهم ما يؤهلهم ولو بقدر أدنى للخوض في هذه المسائل، ولا دراية بِمِيثاقِ شرف هذه المهنة الشريفة مما يجعل اقتحامهم هذا المجال دون سابق علم أمراً مذموماً لدى العقلاء من الناس، فاحترام التخصص مطلوب في هذا الزمن، إضافة إلى ما يوقعونه من إشكالات كثيرة غير مهنية، فالصَّنعة الإعلامية أصبحت في عالمنا اليوم مهنة ذات شرف ورسالة، وينبغي لمن يقتحمها أن يكون ذا رصيد كافٍ من المعرفة، وعنده إلمام بالثقافة المجتمعية، وذا فاعلية في مجتمعه، يسهم في رفع الوعي ونشر الثقافة. ومما راعني وأقلقني ما يوجد اليوم عبر عدد من وسائل الإعلام الجديد وغيرها وخصوصاً وسائل التواصل الاجتماعي من يصف نفسه أنه إعلامي فيدس أنفه فيما لا يعنيه، ويتكلم في غير فنه دون معرفة للمصالح والمفاسد التي قد تجر على البلاد والعباد ما لا يحمد عقباه، كل هذه الجراءة لأجل كسب مصالح شخصية ولأجل أن يتقدم عند الناس بهذه الصفة المزعومة. والذي أراه من الناحية الشرعية أن من اتصف بذلك فإنه يدخل في قول الله تعالى: (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُم بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[سورة آل عمران، الآية: 188]، فهو يحب أن يحمد ويوصف بوصف لم يتخصص فيه وليس من أهله، وهذا هو التشبع بما لم يعط الذي حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم نسأل الله تعالى السلامة والعافية. ومن خلال هذا المنبر الإعلامي جريدة "الرياض" فإنني أدعو الجهات المسؤولة عن الإعلام والمتمثلة بوزارة الإعلام والجمعية السعودية للإعلام والاتصال للقضاء على هذه الظاهرة، ومن المقترحات في ذلك: نشر ثقافة احترام التخصصات، وتطوير كفاءة الإعلاميين الناشئين، وضمان استمرار وإدامة تأهيلهم، والاستفادة من التكنولوجيا الحديثة وتوظيفها في تطوير الأداء لدى الإعلاميين، وأن يكون هناك آلية معينة لتوثيق المنتسبين للإعلام بأن يصدر للمتخصص رخصة خاصة لمزاولة مهنة الإعلام كبقية المهن الأخرى، ولو على أقل تقدير الانتساب للجمعية السعودية للإعلام والاتصال كعضو عامل أو عضو منتسب، وبذلك نحقق أولاً حصر عدد الإعلاميين، ومن ثم القدرة على معرفة المتخصص من دون المتخصص. مسؤولية أخلاقية وبدورها تشارك الإعلامية حليمة مظفر بقولها: الإعلامي صفة عالية في قيمتها ومهنيتها وأخلاقياتها ومسؤولياتها ولهذا ينبغي ألا تطلق إلا على من مارس العمل الإعلامي احترافاً سواء في الصحافة الورقية أو الإلكترونية أو التلفزيون أو الإذاعة كعمل ممارس ولسنوات اكتسب منها خبرة وليس مجرد لقب يطلق على كل من هب ودب ممن يخرج علينا اليوم، خصوصاً ممن اشتهروا في مواقع التواصل الاجتماعي؛ ومع الأسف هذه الظاهرة تنم عن جهل كثيرين ممن يطلقون على أنفسهم صفة إعلامي دون ممارسة مهنية واحترافية وتمكن من أدواتها المهنية؛ ويؤسفني أن إطلاق الألقاب بهذه الطريقة لا تنم عن وعي؛ فكما أن الطبيب لا يطلق إلا على الطبيب والمعلم لا يطلق إلا على المعلم وغير ذلك من مهن، فينبغي أيضاً ألا يطلق لقب إلاعلامي إلا على من يحترف العمل الإعلامي احتراماً لهذه المهنة وما تحمله من مسؤولية أخلاقية ومجتمعية ذات أبعاد غاية في الأهمية على المجتمع. السديري: يجب أن يرتبط بالعلم مظفر: ظاهرة تنم عن الجهل المكينزي: سطو يحتاج إلى يقظة الفضيل: حالة تكرس ثقافة الزيف Your browser does not support the video tag.